story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تمويل المونديال.. صفر شفافية

ص ص

أكتب اليوم للتعليق على تحقيقنا الأخير المنشور في عدد هذا الأسبوع من مجلة “لسان المغرب”، والذي حاولنا فيه تعقّب الآثار المالية لتحضير تنظيم جزء من مونديال 2030 في بلادنا، من خلال وثائق وتقارير وحسابات مشروع القانون المالي للعام 2026.

لا أفعل ذلك لأننا ضد المونديال ولا ضد الطرق والمطارات والسكك… بل أكتب تعليقا على الطريقة التي تُدار بها كلفة حدث بحجم يعيد رسم الاقتصاد والسياسة والخيال الجماعي لسنوات.

ومشكلتنا في هذا الصدد ليست مع الإنفاق في حد ذاته ولا مع مشاريع البنيات الأساسية التي تقام، بل مع الشفافية حين تُستبدَل بحِيَل محاسبية، ومع المال العام حين يُخفى خلف مسميات “صناديق” و”مقاولات عمومية” و”نماذج تمويل مبتكرة”، فتغدو أرقام بمليارات الدراهم من المال العام وضرائب ومدّخرات المغاربة، خارج أي نقاش عمومي ملزِم، بينما الأصل أنّ كل درهم مقيَّدٌ بحُكم الدستور: المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة.

من داخل الوثائق الرسمية نفسها، تتكشف صورة معاكسة لفكرة “كلفة شبه معدومة”. الاستعداد للمونديال يجري، أساسا، عبر ذراعين: حسابات خصوصية تضخّ موارد غير مسبوقة في “الصندوق الوطني لتنمية الرياضة”، ومؤسسات عمومية رُبطت برامجها الاستثمارية الكبيرة بأفق 2025–2030.

مكتب السكك يطلق خطا مشاريع ضخمة بنحو 96 مليار درهم. ومكتب المطارات يبرمج 38 مليارا، منها محطات جديدة وتوسعات مرتبطة مباشرة بالمدن المحتضِنة. وشركة الطرق السيارة تتعهّد بـ12.5 مليارا، والشركات الجهوية للماء والكهرباء والتطهير بأكثر من 78 مليارا، والرقمنة بـ80 مليارا مع “تغطية شاملة” لمدن المونديال، حسب منطوق الوثائق الرسمية…

وخلف هذه العناوين، صندوق تنمية الرياضة، وهو واحد من الحسابات الخصوصية للخزينة، أي ما اعتدنا في الماضي على تسميته ب”الصناديق السوداء”، والذي يقفز تمويله وصرفه إلى مستويات قياسية، لإنشاء “البنيات الكروية” بمبالغ تتضاعف عاما بعد عام.

هذه ليست سياسة “صفر درهم”؛ بل سياسة إنفاق عمومية واسعة تُبنى ببطء خارج عنوان “المونديال”، لكنها تُبرَّر به.

القلب المالي الحساس للتدبير العمومي يوجد في الملاعب. والنموذج الذي استقر عليه القرار الحكومي بسيط في معادلاته، معقّد في مخاطره: الاقتراض أولا عبر شركة عمومية اسمها “سونارجيس”، ثم إسناد البناء والاستغلال إليها مع فترة سماح وفائدة وأجَل سداد طويل، أي أن الربح مضمون لليوم، والمخاطر والسداد مؤجل إلى الأجيال المقبلة.

تقدير التمويل للملاعب وتأهيلها يدور حول 23 مليار درهم. نصفه من صندوق الإيداع والتدبير، والنصف الآخر من بنوك بينها البنك العقاري والسياحي. المال مصدره في النهاية ادخارٌ وطني واستثماراتٌ عمومية استراتيجية. والسداد يبدأ بعد 2030 وعلى مدى عشرين سنة، بفائدة تقارب 3% وفترات سماح تصل خمس سنوات بعد كل سحب.

على الورق يبدو كل شيء “ممَأسَسا”: شركة “سونارجيس” تقدّم بصفتها “صاحب المشروع”، والوكالة الوطنية للتجهيزات العامة ك”منفّذ”، وعقود ومقاولات وبورصة وفرَص.

لكن على أرض الواقع تبرز أسئلة جوهرية: من يسدّد إذا تعثّرت “سونارجيس”؟ من يتحمّل المخاطر التشغيلية عندما تنطفئ أضواء الحدث وتبدأ كلفة الاستغلال والصيانة؟ وما الذي يضمن ألّا نعود، كما حدث سابقا، إلى إنقاذ الشركة نفسها بالمال العام؟

تاريخ “سونارجيس” لا يترك كثير شك. الشركة اقتربت في منتصف العقد الماضي من حافة الانهيار، فعولجت بأموال الميزانية وأُعيد ضخّ الأوكسجين العمومي لتستمر. وها هي اليوم تُحمّل بديون طويلة الأجل وتُعهد إليها منظومة منشآت تتجاوز “المدرج والعشب” إلى “المحيط التجاري والرقمي والخدماتي”.

يعدنا الخطاب الرسمي بنموذج “لندن لا ريو”. أي مرافق تُستعمل بعد الحدث ولا تتحوّل إلى أطلال. جميل. لكن المؤشر الوحيد المقنع سيكون بعد 2030: نسب الملء خارج المباريات، وعائدات الاستغلال، وكلفة الصيانة، وحجم الدعم العمومي المباشر وغير المباشر. هنا تتكلم الأرقام لا النوايا.

المعضلة ليست مالية فقط؛ إنها مؤسساتية وأخلاقية. حين يُنقل العبء التموِيلي من “الميزانية العامة” إلى “المؤسسات العمومية” و”الحسابات الخصوصية”، لا يختفي العبء. بل يتحوّل إلى التزامات ضمنية على الدولة والمجتمع، وإلى ديون شبه عمومية محمولة فوق ظهور أجيال مقبلة، وإلى “كلفة فرصة” تستنزف هوامش الاستثمار في الصحة والتعليم والسياسات الاجتماعية.

تسميتها “تمويلات مبتكرة” لا تُعفي من المبدأ الذي يشمل كل درهم عمومي، مهما غيّرنا الوعاء، والذي يحتاج إذنا عموميا ومساءلة عمومية.

ثم إننا نُبحر في صمت. أكبر ورش بنيوي منذ “الطرق السيارة” و”القطار فائق السرعة” يجري بأقل ما يمكن من الشرح. لا عقود منشورة، ولا لوائح مستفيدين، ولا جداول سحب وسداد مفصّلة للقروض، ولا “لوحة قيادة” تبيّن التطور المالي والإنشائي، ولا تقارير دورية مفهومة بلغة المواطن.

البرلمان نفسه يتلقى شذرات؛ والرأي العام يتداول تخمينات؛ والحكومة تختبئ وراء عبارة “لا أثر في الميزانية العامة”. هذه ليست شفافية. هذا حجب مقصود وممنهج.

أنا أؤيد أن نضع للعالم “نسخة مغربية” تُدرّب الدولة على الإنجاز في الآجال وتُصالح المواطن مع الاستثمار الكبير. لكن هذه النسخة المغربية لا تُكتب بالإنجاز فقط؛ بل تُصنع أيضا بطريقة الإنجاز.

المطلوب الآن، وقبل الغد، هو نشر العقود الخاصة بالملاعب، وجداول التمويل والسداد، وشروط الفوائد التي سيدفعها أبناؤنا، وفترات السماح، وهوية الأطراف المتعاقدة من المنفّذين والاستشاريين والمورّدين.

التدبير المالي ليس تقنية محايدة؛ بل هو سياسة. وحين نُقرّر تمويل الملاعب عبر ديون طويلة بأصول عمومية تضمنها خزينة الدولة، نحتاج أن نقول ذلك كما هو، وأن نصارح الأجيال المقبلة بما نقترضه على حسابها.

حين ندفع شركات عمومية إلى خطوط استثمارية غير مسبوقة تحت مبرّر “أفق 2030″، نحتاج أن نُدخل البرلمان والمجتمع إلى قاعة القيادة. وحين نرفع شعار “المصلحة الوطنية”، نحتاج أن ندعمه بسؤال بسيط: من سيدفع، ومتى، وبأي ثمن؟

الحماس لا يغني عن الميزان؛ والحدث لا يعفي من الحساب.

المونديال فرصة نادرة لتحديث عمراننا وشبكاتنا وإدارتنا. لكنه سيكون أيضا امتحانا لمنظومة حكامة وتدبير اعتادت أن تخلط بين السرعة والسرّية. نستطيع أن ننجح في الاثنين. أي أن ننجز بسرعة، ونشرح علنا. نبدع في الهندسة المالية، ونُحصّنها بالضوء. نبني ملاعب تليق بالحدث، ونبني قبلها وبعدها جسور ثقة مع المواطن، لأنه المموّل الأخير، والمالك الحقيقي، والمستفيد المفترض.