story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ترامب يُسقط التطبيع!

ص ص

وجّه دونالد ترامب، الرئيس الأميركي العائد من بوابة الانتخابات، صفعتين قويتين في وجه المؤسسة الإسرائيلية.

صفعتان لا تخطئهما العين، ولا يمكن تغليفهما تحت أي تأويل دبلوماسي: صفعة عبر هدنة مع الحوثيين دون إخبار إسرائيل، أو دون أخذ رأيها على الأقل، وأخرى عبر دفع مشروع المفاعل النووي السعودي، دون اشتراط التطبيع مع تل أبيب.

إنها ليست مجرد إشارات، بل انعطافة حادة في العلاقة بين راعي الصهيونية الأول والكيان الذي طالما تغذى من “الحصانة الأميركية”.

ومع اقتراب وصول ترامب إلى الرياض هذا الاثنين 12 ماي 2025، تلوح في الأفق مؤشرات تغيّر لافتة في موقع إسرائيل ضمن الحسابات الاستراتيجية الأميركية.

من قلب هذا التحوّل، يطلّ دونالد ترامب، الرجل الذي اعتُبر يوما هدية القرن للمشروع الصهيوني، وهو يعيد رسم ملامح العلاقة مع تل أبيب ببرود حادّ ومفاجئ.

لم تعد إسرائيل، كما يبدو، تتمتع بذلك الامتياز المُطلق في التأثير على القرار الأميركي، بل أضحت أقرب إلى عبء يُنذر بتوريط الإدارة في صراعات غير مرغوب فيها.

وإذا كانت واشنطن تعيد النظر في أدواتها ومداخل نفوذها في الشرق الأوسط، فإن على العواصم العربية، والمغرب في مقدمتها، أن تتوقف قليلا لتفكر: هل ما زال الطريق إلى البيت الأبيض يمرّ حتما عبر تل أبيب؟ وهل ما زالت ورقة التطبيع تساوي كل هذا الرهان؟

منذ فترة وعلى مدى أيام، ظل بنيامين نتنياهو يصارع صمتا يُذل ولا يُعلِن. ترامب أدار له ظهره، وقطع الاتصال المباشر به. ومقربو الرئيس الأميركي أبلغوا وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، بشكل فظ: نتنياهو يتلاعب بنا، وترامب يكره أن يُظهره أحد بمظهر المغفل. انتهى الكلام.

في واشنطن، بدأ الرئيس العائد بثقل تيار “أمريكا أولا”، يطبّق شعاره بحرفيته المقلقة لحلفائه. كانت البداية مع أوكرانيا ومن خلفها كامل أوربا، واليوم هدنة مع الحوثيين، وصفقات أسلحة ومفاعلات نووية مع السعودية، وجولة وشيكة على الرياض والدوحة وأبو ظبي… كل ذلك دون حاجة إلى مصادقة من تل أبيب.

إنه عناق أميركي للمصالح القومية، لا مكان فيه للحسابات العاطفية التي تعودت عليها إسرائيل. بل إن الترتيبات التي يقودها ترامب في المنطقة تبدو وكأنها تنتزع “الفيتو الإسرائيلي” من الملفات الإقليمية الحساسة، وتعيد صياغة هندسة القوة في الشرق الأوسط على أسس استراتيجية أميركية خالصة.

صفعة أولى، تمثّلت في الاتفاق مع جماعة الحوثي. اتفاق لم تُخبر به إسرائيل، ولا يشملها، بل لم تُدعَ حتى لإبداء الرأي فيه.

نعم، إسرائيل التي تتلقى بين الحين والآخر صواريخ يمنية في عقر عاصمتها، فوجئت. وصفّارات تل أبيب انطلقت هذه المرة، لا لتحذر من طائرة مسيّرة، بل من رصاصة سياسية جاءت من البيت الأبيض نفسه.

فجأة، تجد إسرائيل نفسها وحيدة أمام الحوثيين، تُطلق النار فترد، دون أن تتدخل واشنطن لتهدئة الموقف أو حمايتها. والأدهى من ذلك، أن الاتفاق لا يمنع استهداف الحوثيين لإسرائيل، بل فقط يُحصّن السفن الأميركية والتجارة العالمية. أي أن ترامب قرّر حماية مصالح بلاده، فقط، تاركًا حليفه الأزلي يتدبر أمره.

صفعة ثانية، ربما أكثر إيلاما، تمثلت في ما نقلته وكالة رويترز من مصدرين مختلفين، عن عزم ترامب إتمام صفقة مفاعل نووي مدني مع السعودية دون شرط التطبيع.

ماذا تبقى من “صفقة القرن”؟ وأين ذهب شرط التطبيع الإجباري الذي ربطته الإدارات السابقة بأي تقارب مع الرياض؟
ترامب كسر تلك القاعدة، وأرسل للإسرائيليين رسالة باردة: لستم مركز العالم، والقرار الأميركي لا يُنتج في الكنيست.

لأول مرة منذ سنوات، يتحدث الإسرائيليون عن “فجوة” بينهم وبين واشنطن. فجوة بدأت بإعلان أحادي من ترامب عن هدنة مع الحوثيين، ثم تعمّقت عندما لم تُدع إسرائيل إلى طاولة القرارات النووية مع السعودية. من كان يتخيل أن تُعقد اتفاقات كهذه دون أن يُطلب رأي نتنياهو؟ ومن كان يظن أن ترامب، الذي يبدو أكثر رؤساء أميركا دعما لإسرائيل، سيتصرف بهذا الشكل السيادي البارد تجاهها؟

لا أحد يدّعي أن ترامب أصبح “مناصرا لفلسطين”، لكن الواضح أن بوصلته تغيّرت. فهو لم يعد مستعدا لتقاسم السيادة على القرار الأميركي مع إسرائيل، ولا لقبول خداع نتنياهو المتكرر. أكثر من ذلك، يبدو ترامب عازما على دخول التاريخ من بوابة نوبل للسلام، ليس في خدمة مشروع إسرائيل الكبرى، بل من باب تقليص التورط الأميركي في الشرق الأوسط وحروب العالم.

أما نحن في المغرب، فالمطلوب منا اليوم ليس مجرد مراجعة تقنية لتفاصيل العلاقة مع إسرائيل، بل إعادة ترتيب شاملة للأفكار والخيارات والمبررات التي سادت خلال السنوات الماضية.

لقد قُدم لنا التطبيع وكأنه درب لا مفر منه، طريق سيادي إجباري للعبور نحو واشنطن، وورقة اعتماد ضرورية لضمان الرضا الأميركي، وكسب الصفقات الاستراتيجية الكبرى. لكن ها هو الزمن يُكذّب الرواية: الولايات المتحدة تتفاوض على مشاريع نووية في المنطقة، وتبرم تفاهمات جيوسياسية واقتصادية من العيار الثقيل، من دون أن تُشهر ورقة إسرائيل ولا أن تشترط المرور من بوابتها.

فبأي منطق نستمر في تبرير خيار لم يعد يُقنع حتى حلفاءه؟ بأي خطاب نواصل الدفاع عن علاقة تتقلص مكاسبها الواقعية وتتضخم خسائرها الرمزية؟ هل ما زال مقنعا أن نراهن على شحنات سلاح أو تقنيات أمنية إسرائيلية، بينما ترامب نفسه، مهندس ما سُمي بـ”صفقة القرن”، لم يعد يثق في نتنياهو، ولا يرى في تل أبيب سوى طرف ثانوي يمكن تجاوزه؟

صفعة ترامب لنتنياهو ليست مجرد خلاف سياسي عابر، بل هي إشارة استباقية لكل الأنظمة التي أوهمت شعوبها بأن التطبيع هو بطاقة الدخول الوحيدة إلى نادي الكبار.

وإذا كان رئيس أميركي محسوب على أقصى اليمين المسيحي، معروف بقربه من اللوبي الصهيوني، يقرر أخيرا أن يكون رئيسا لبلاده لا مجرد وسيط باسم الوكالة الصهيونية، فماذا تبقى من حجج الأنظمة العربية التي سلّمت مفاتيح قرارها الخارجي للترضيات الإسرائيلية؟

ويبقى السؤال الكبير معلقا ومحرجا: ما مصير التطبيع المغربي بعد اليوم، إذا كانت أميركا نفسها، صاحبة اليد العليا، تعقد صفقاتها الكبرى وتعيد رسم تحالفاتها دون أن تُشرك إسرائيل أو تأخذ بعين الاعتبار موقعها في المعادلة؟ هل سنواصل التغني بـ”الاختراق الاستراتيجي”، بينما اللاعبون الحقيقيون يعيدون توزيع الأوراق؟