story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

بين الملعب والمستشفى – وهم المعادلة الصفرية (الجزء الثاني)

ص ص

احتجاجات أكادير: ” الغضب ينذر ولا يحسم المعادلة الصفرية

في مقال سابق نشر بتاريخ 11 شتنبر 2025 بعنوان “بين الملعب والمستشفى – وهمُ المعادلة الصفرية”، وبنفس هذا العمود، عمود الرأي على موقع صوت المغرب، تناولت إشكالية ترتيب الأولويات بين الملعب والمستشفى، وأوضحت أن اعتبار هذه المسألة معادلة صفرية أمر غير منطقي؛ فالتنمية لا تختزل في خيار واحد، ولا تتحقق بإهمال واحدة من حاجات المجتمع او مشاريع المغرب بما فيها الرياضية، فكل مشروع، يجب أن يضع المواطن في صميم اهتماماته، وكان هذا جوهر الفكرة، الانسان و المواطن. بعد ما حدث في أكادير تحديدا بمستشفى الحسن الثاني، أصبح هذا النقاش أكثر وضوحًا، فصرخ مواطنون،» لا نريد كأس العالم نريد مستشفى “، بمعنى اتجهوا للاحتجاج بالمعادلة الصفرية، التي نبهنا لها في المقال الأول أو الجزء الأول من هذا النقاش.

لنعد للنازلة والمفارقات التاريخية في أكادير، والتي تبدو أقرب إلى روايات الخيال منها إلى الواقع. قبل أكثر من قرن، رست بارجة ألمانية في ميناء المدينة، لتفتح شهية القوى الاستعمارية على اقتسام المغرب، وكانت المدينة والمواطن مجرد “هامش” في هذه المعادلة الدولية المعقدة. واليوم، يقف المواطن نفسه أمام بوابة المستشفى الجامعي، مطالبًا بحقه الأساسي في العلاج، وكأن الزمن لم يتقدم، وكأننا لم نغادر بعد عصر البوارج، إلا أن أدوات السيطرة قد تغيرت: من مدافع ثقيلة إلى أوراق رسمية وواجهات إسمنتية باردة.

إذا كانت أزمة البارجة تعكس صراعًا دوليًا على النفوذ والثروات، فإن أزمة المستشفى الجامعي تعكس صراعًا داخليًا على ترتيب الأولويات والتنمية الواقعية: هل نكتفي ببناء صروح ضخمة لتتصدر الصور الرسمية وتغذي سجلات الإنجازات، أم نضمن أن تكون هذه الصروح صالحة فعليًا لاحتضان آلام الناس وآمالهم؟ هل نبهر العالم ونقتل مواطنينا؟ وهل هذا مشروط بالآخر أو العكس؟ هنا الفجوة تكشف عن نفسها: المواطن، كما كان خارج حسابات القوى العظمى في الماضي، لا يزال اليوم خارج الحسابات العملية للسياسات العمومية، وكأن التاريخ يعيد نفسه بأسلوب أقل فظاعة وأكثر تعقيدًا.

المدينة تحولت إذن من “رمز تنافس إمبريالي” إلى “رمز عجز داخلي”، البارجة الألمانية غادرت الميناء بعد تسوية بين القوى الامبريالية، بينما المستشفى الجامعي لا.

إنه تجسيد للفجوة بين الخطاب والواقع، بين المشاريع التي تُسوّق باعتبارها إنجازات كبرى، وواقع يعكس هشاشة التخطيط والتنفيذ، وغياب الإرادة الحقيقية لوضع الإنسان في صميم المعادلة.

احتجاجات ساكنة أكادير ليست مجرد صرخة محلية، بل إنذار واضح بأن التحدي لم يعد في بناء الجدران، بل في بناء الثقة؛ لم يعد في إطلاق الأوراش الكبرى، بل في ضمان استمراريتها وجدواها، السؤال الأعمق يبقى حاضرًا في كل ركن من المدينة: أي نموذج تنموي نريد؟ نموذج يراهن على الواجهة والصورة، أم نموذج يضع الإنسان، صحته وكرامته، في قلب كل قرار؟

باختصار، إذا فتحت أزمة البارجة الباب أمام الحماية الأجنبية، فإن أزمة المستشفى تفتح الباب أمام سؤال الحماية الاجتماعية: من يحمي المواطن من عبث السياسات العمومية؟ ومن ينقذ أكادير من أن تغرق مرة أخرى، ليس تحت قذائف البوارج، بل تحت ثقل الإهمال، البيروقراطية، والسياسات التي تُسوَّق أكثر مما تُطبَّق؟

في نهاية المطاف، تحولت أكادير إلى مرآة تكشف عن هشاشة النموذج التنموي الذي يركز على الرمزية أكثر من الحقوق الأساسية، وعن فجوة بين الصورة والمضمون، بين الخطاب والواقع، بين ما نراه وما نعيشه فعليًا. ومن هنا، تتضح حقيقة المعادلة الصفرية، فهي تعبير عن الغضب والاحتجاج لا غير، حتى وإن استُحضرت فيهما المعادلة الصفرية المشار إليها، لا يعنيان بالضرورة أن المواطنين يعتقدون بها أو يتبنّونها فعليًا. فبالرغم من كل الانزعاج والتنديد، سيبقى معظمهم يشجع المنتخب الوطني ويشاهد مباريات كأس العالم بحماس، وكأن شيئًا لم يكن. هذا الغضب ليس إلا شكلًا من أشكال التصعيد اللحظي، لأنه يرتبط بمسألة بالغة الحساسية والخطورة، تتعلق بالحق الأساسي في الحياة والصحة. وفي خضم هذا الاحتجاج، قد تظهر ملامح العدمية والإحباط، لكنها لحظية بطبيعتها، تعبير عن استياء شديد تجاه أوضاع لا تحتمل التأجيل، وليس موقفًا دائمًا أو إيمانًا راسخًا بهذه المعادلة. بعبارة أخرى، هو صرخة احتجاجية تندلع حين تهتز أسس الحقوق الأساسية، لكنها لا تلغي الفطرة الإنسانية التي تدفع الإنسان للاستمتاع باللحظات الوطنية، حتى في أصعب الظروف.

غير أن ذلك لا يعني أن ما وقع في أكادير يمكن اعتباره مجرد حادث عابر أو ظرفًا عاديًا يمر مرور الكرام. فهو بمثابة ناقوس خطر يرن في وجه الجميع، ويستدعي طرح أسئلة جدية حول المحاسبة والمسؤولية، وعن كفاءة المشروع التنموي القديم ومدى صلاحيته في مواجهة تحديات الحاضر، بالإضافة إلى تقييم المشروع الجديد ومدى قدرته على تلبية حاجيات المواطنين. هذه الأحداث تفتح كذلك الباب أمام نقاشات أعمق حول أولويات التنمية، وتعيد إلى الواجهة أسئلة مصيرية تتعلق بحق المواطن في الحياة الكريمة، وفي الخدمات الأساسية التي تضمن له صحة وسلامة واستقرار المجتمع. بعبارة أخرى، الغضب اللحظي والاحتجاج ليسا مجرد انفجار عاطفي، بل انعكاس طبيعي لتراكم الإخفاقات والتحديات المستمرة، ودعوة صريحة لإعادة النظر في أسس التنمية، والتخطيط لمستقبل أكثر عدلاً واستدامة.