بحثاً عن موقف مغربي من تجويع غزة

لم يعد إنسانٌ، متحقّقاً بإنسانيته، على وجه هذه الأرض، يعلم بما يقع في غزة، ولا يغضب لكل تلك البشاعة. ما يجري يفوق كل إجرام، ولم يعد من مجالٍ للبقاء في الوسط. والتجويع أبشعُ أساليب حرب الإبادة. قرأنا عن حكايا الهولوكوست النازي، وها نحن نشهد الهولوكوست الصهيوني رأي العين.
22 شهرا من التقتيل، والاستقواء على المدنيين، وتهديم كل أسباب العيش في قطاع محاصر من 20 عاماً، ثم يأتي التجويع ليكون مستوى جديدا في العدوان، تمهيداً لجريمة التهجير، بدعمٍ أمريكي وفق كل ذلك الحديث عن “ريفييرا الشرق الأوسط”.
لم يعد يخفى أن الأطفال يموتون يومياً جرّاء الجوع ( وكم يقاسي طفلٌ من آلام قبل أن يموت من الجوع؟)، والنساء يُقتلنَ أمام مراكز توزيع المساعدات الأمريكية الإسرائيلية التي تحوّلت “مصائد قتل”، بعد عسْكرة المساعدات الإنسانية. “مؤسسة غزة (اللا) الإنسانية” صُمّمت للإذلال والإهانة، وهندسة الجوع، والقتل.
لا مجال للوقوف في المنطقة الرمادية. واقع الإبادة يتكرّس بأكثر وجوهه قُبحاً، وهذه المرة بتجويع شعب بأكمله، حيث لم يعد يحتاج الاحتلال إلى القنابل والصواريخ للفتك، بل ينهج أشد الأساليب خسّة، من خلال ترك الفلسطيني يتآكل من الداخل، حتى يموت.
العالم يدركُ كل هذا بوضوح، ولا يزال ينتظر من إسرائيل أن “تتأنْسَن”. يومَ قرر المحتلّون أنّ سكان غزة “وحوش بشرية”، وأطفالها “أطفال ظلام”، بدأت الإبادة، ولن تتوقف ما لم يحصل ما يدفع المحتلّين لوقف عدوانهم.
إجرام إسرائيل صار معلوماً، وارتكابها للإبادة مثبت. لذا، لا تهتم هذه المقالة الآن كثيرا بدولة الاحتلال التي كانت دوماً عنوان الوحشية. صار الأمر يتجاوزها إلى قضية ضمير إنساني. ما نعيشه واحدةٌ من أكثر اللحظات سوداوية في التاريخ الحديث، واختبار جدّي للعدالة الدولية.
غير مقبول كل ترفِ الوقت الذي يرفلُ فيه العالم وهو يرسل “المناشدات” لمجرم الحرب نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف، للسماح بدخول المساعدات.
أما ما يعنينا نحن في المغرب فمُخْجِل. يتحاشى المرء ما استطاع أن يسأل نفسه عن حقيقة الموقف الرسمي، ويحرّك عقله ما أمكنه لإيجاد “المبّررات” ليؤجّل السؤال، وينتظر أن يُتّخذ الموقف اللازم، ثم يستسلم لحقيقة أن دولتنا تقف في وضعية “ما يبغيها لا ربّي لا عبدو”.
صار واضحاً أن التطبيع جعلَ المغرب يبتلع لسانه، ويستقيل من واجبه الإنساني في حدّه الأدنى، المتمثّل في استنكار الإبادة والتجويع، بالقدر المطلوب، وبدرجة تتناسب مع حجم الإجرام.
يوم عُقد الاتفاق الثلاثي، بين المغرب وإسرائيل وأمريكا، تردّد بوضوح، وعلى أكثر من مستوى، أن استئناف العلاقات مع إسرائيل لن يكون على حساب الفلسطينيين. كان هذا بحكم “التعاقد” و”الضمانة” المعلنة أمام المغاربة، ومع من يوصفون في البلاغات بـ”الأشقاء”. الآن، بكل وضوح، يظهر أن كتابة مجرد بيان تنديد في وزارة ناصر بوريطة صار أصعب.
لم يعد المرء معنياً بإرهاق نفسه في البحث داخل حسابات المصالح وتعقيداتِ العلاقات الدولية، والتباسات الإكراه الداخلي بالمعطى الخارجي، وكل ذلك الكلام الكبير، لفذلكة “التخريجات”. نبحث الآن عن الضمير الذي يرى الإبادة الجماعية، وكل هذا التجويع، ولا يندّد كما دولٌ كثيرة علاقاتها بإسرائيل أكثر رسوخاً، لنسأل بكل وضوح: إن لم يكن لنا موقف الآن، فمتى؟.
بلا لفّ ولا دوران، دولتنا توجد في وضع “لا يسرّ حبيباً ولا عدوّاً”. تعتقدُ، مع بداية الحرب، أن لغة بلاغات وزارة الخارجية التي تكاد تساوي بين الضحية والجلّاد مجرّد تعليق لحظي على حدثٍ كبير وغير مسبوق، بادرت إليه المقاومة من خلال الهجوم على دولة الاحتلال، لكن بعد ما يقرب من السنتين، وكل المذابح، تتيقّن أن الاختيار استراتيجيٌ ويتجاوز الطارئ، وأن الخروج من موقفٍ منحازٍ للفلسطينيين، إلى “الحياد”، ثم إلى الانسحاب الذي لا يخدم إلا الاحتلال، يتعاظم، بعدما تحوّل التطبيع إلى قيْدٍ يكبّل ويَحُول دون الوقوف في المكان الصواب من التاريخ.
ما يجري في غزة مأساةٌ إنسانية من صنع البشر، ويجب أن نُحمّل هؤلاء “البشر” كاملَ المسؤولية، لا أن نعتبرهم “حلفاء”، وأن نستضيف جنودهم القتلة في التدريبات، ونسمح بمرور سفنهم الشريكة في الإبادة. غزة الآن قضية إنسانية، وليست مجرد قضية سياسية حتى نُكثر في الحساب والتردّد.
الوضع يتجاوز حماس والحق في المقاومة، إلى واقعِ عقابٍ جماعي ضد مدنيين بلغ مستويات بشعة، ومسيء لكل دولةٍ أن تقبل البقاء على “الحياد” الأقرب إلى التواطؤ، حين تدفن رأسها في رمال التجاهل. لن يكون مفيداً إدارة الظّهر للمأساة واعتبارها كأنها غير موجودة. العالم يشاهد الجوعى يتدافعون بيأسٍ حاملين أوانيَ علّهم يحصلون على ما يدفع الموت، وآخرين يأكلون الأعشاب (إن وجدوها) دون تمييز بين الصالح والضار، وصحافيين يشربون الماء والملح لمنع تعفّن الأمعاء جراء الجوع، والأطفال حفاة عراة هزيلين، والنساء والرجال الجوعى يُمطرهم جنود الاحتلال ومرتزقة “مؤسسة غزة اللاإنسانية” بالرصاص أمام مراكز المساعدات التي تهين الكرامة، وتظهر خسّة المحتلين وشركائهم. ما يجري وضعٌ ساديٌّ، يقترفه سياسيون وجنود مرضى يتلذذون بتعذيب شعب.
ينتظر كثير من المغاربة من الدولة موقفاً بإزاء كل هذا، خاصة من يسيرون في المسيرات وينظمون الوقفات، ويتحركون في الفعاليات منذ بدء الإبادة الجماعية، ومعهم كثير ممن يستنكرون وهم يشاهدون أخبار غزة. الوضع المعقول أن يكون هناك موقف إنساني سياسي في مستوى أوضاع القطاع المنكوب، وثانياً متناسباً أو قريبا من الموقف الشعبي الرافض لهذه الجريمة.
لا أريد أن أرى بلدي المغرب في علاقة “حبّ من طرف واحد” مع إسرائيل. دولة الاحتلال تزدري وحدتنا الترابية، وتتلكأ في اتخاذ موقفٍ صريح، تتركه للمزايدة السياسية والابتزاز، ورئيس حكومتها كل مرة يجد تبريراً لعرض خريطة المغرب مبتورة عن الصحراء المغربية، كما لا يُقيم اعتبارا لكل البيانات، على ضعفها، التي تصدر من كيانات إقليمية ودولية ينتمي إليها المغرب.
لا أريد أن أتصوّر إسرائيل تأخذ ولا تعبّر حتى عن الاستعداد للعطاء واحترام “حلفائها”. قضية فلسطين وضعتها الدولة المغربية، بمنطوق أعلى مؤسسة، في نفس مرتبة القضية الفلسطينية. وهذا كلامٌ يُفترض أن يكون له أثر. آثاره الفورية موقفٌ صريح من ذبح غزة، وسعيٌ جدّي لكسر الحصار عن المجوَّعين، ووقف إبادة الأطفال. غير هذا سيكون كل كلام أو شعار مجرّد مقولة للاستهلاك الداخلي، وتعمية على الموقف الحقيقي.
ولا أريد أيضا أن أستسلم لشعور أن الدولة المغربية أضعفُ من أن تتخذ موقفاً مناسباً. تتمتّع بـ”حزام أمان” شعبي مناصرٍ للحق الفلسطيني، أكّد امتداده ورسوخه، ومحميّةٌ بـ”أخلاقية” تتعاظم في العالم ترفض الإجرام الإسرائيلي، تقوده دولٌ لا تتردد في توصيف الجاري بالإبادة، ومسنودةٌ، على مستوى الموقف، بغطاء عربي يندّد، ولو كلامياً. السعودية تندّد بالتجويع، وكذلك تفعل مصر، والأردن، وغيرها، والمغرب ليس أقلّ شأناً.
لا أتصوّر أن في التطبيع مع إسرائيل ما يمنع التنديد بجرائمها والمطالبة بوقفها. ولا أعتقد أن اتفاق استئناف العلاقات “قرآنٌ منزّل” و”قدرٌ مُحَتَّم”، علما أنه سبق قطع العلاقات في ظروف تقلّ بكثير عن الوضع الحالي. بريطانيا صاحبة وعد بلفور تندّد، وأوروبا المسكونة بـ”شيطان الصهيونية” تدرس فرض عقوبات، دول أوروبية تقيم علاقات مع تل أبيب ولا ترى ما يمنع تجريمها ودعم محاكمتها. حتى ألمانيا، التي تجرّ تاريخاً من العُقَد بشأن القضية اليهودية، تستنكر التجويع. على هذا الأساس، لا أجد أيّ مبرّر لصمت الدولة المغربية.
لا يجب أن نستسلم لتهويل “المفتونين بإسرائيل” الذين يريدون نزع المغرب من التاريخ والجغرافيا لرميه في الحضن الإسرائيلي عراةً من الأخلاق والوطنية. الأخلاق تفترض أن تطلب الدولة المغربية وقف الإبادة عبر التجويع، والوطنية رديفة الاستقلال وعدم الشعور بالتبعية التي تمحو كل مسافة مع المحتلّين.
قصارى القول
التاريخ يسجّل في كشوفاته، ولا أتمنى أن نُكتب مع الذين صمتوا وقتما وجبَ الكلام، وقعدوا لحظة استلزم الأمر التحرّك. قبل أن تُطوى سجّلات هذه اللحظة البئيسة، من تاريخنا المشترك، وجب أن نقول إن “صمت” الدولة المغربية لا تنتفع منه إلا إسرائيل، التي نقلت جرائم الحرب إلى مستوى جديد من الفظاعة.
إن تجاهل التجويع الذي أدى إلى المجاعة في غزة هبوطٌ أخلاقي، وإن عدم التنديد الكافي بالإبادة والتحرك لوقفها يظهر بلدنا في صورة لا تليق بمغرب نؤمن ومقتنعون أنه أكبر من كل المحتلّين والطارئين.
ثم، ما أبأسها من لحظة أن نطلب مجرّد موقف، ويكون سقفُ طموحنا هابطاً إلى هذا الحد.