story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

انتهاك خصوصية النساء بالفضاء الرقمي وسؤال حماية الحياة الخاصة

ص ص

عندما تصل أزمة القيم مداها، ولا تفلح مؤسسات التنشئة الاجتماعية في معالجة الاختلالات التي شابت المنظومة الأخلاقية، التي ازدادت حدة مع الثورة التكنولوجية، فلم يعد الإنسان قادرا على عيش حياته الخاصة بشكل طبيعي وممارسة حرياته التي يكفلها أسمى قانون بالبلاد، حيث بات يعيش تحت تهديد دائم من محاكمة مجتمعية واسعة “محتملة” عبر مواقع التواصل الاجتماعي وإصدار الأحكام دون حق ولا سند، حتى قبل صدورها عن جهاز القضاء صاحب الاختصاص الحصري في المحاكمة، وفي خرق سافر لمبدأ “قرينة البراءة” الذي يكفله القانون.

وعندما تصبح حرية التعبير سلاحا ضد حرية الآخر وحياته الخاصة، دون الأخذ بعين الاعتبار مبدأ أن “حريتك تنتهي عند بداية حرية الآخر”، فيصبح النهش في الأعراض وتعقب حياة الأشخاص فرصة لكسب المزيد من “نسب المشاهدة” و”اللايكات” على المواقع والصفحات، دون أي ضوابط قانونية ولا أخلاقية، ودون أي اعتبار للآثار النفسية والاجتماعية الوخيمة لهذا الانتهاك الخطير للحق في الخصوصية على الأفراد وعائلاتهم ومحيطهم.

لذلك، لا تعتبر قضية “غيثة” الأولى ولا الأخيرة، التي كان الفضاء الرقمي وسيلة سهلة لانتهاك حياتها الخاصة، والخوض فيها، إلى أن جعلها قضية رأي عام دون موجب حق، وهي الشابة التي تمت محاكمتها بشكل علني “افتراضيا” وتم الخوض في عرضها وشرفها طولا وعرضا، وتم إصدار الأحكام حسب أهواء المدونين على المواقع وحسب حالتهم النفسية طيلة فترة اعتقالها، ليتم إخلاء سبيلها بعد 48 ساعة من وضعها تحت تدابير الحراسة النظرية، بعد قرار النيابة العامة بحفظ الشكاية لانعدام وسائل الإثبات، لتدخل فئة من هؤلاء المدونين “جواهم” وتستمر فئة أخرى في التشبت بجلد غيثة رغم قرار المحكمة لصالحها، لاعتبارها امرأة أولا وقبل كل شيء، وتبدأ طائفة جديدة بالتعاطف، وكأننا أمام مجتمع يعاني من “انفصام” خطير، تتآكل معه القيم والمبادئ التي طالما ميزت المجتمع المغربي.

وهو الواقع الذي يصعب تجاوزه في ظل هذا الانتشار الكبير لمظاهر انتهاك الحياة الخاصة للأفراد وأشكال التمييز والعنف ضد النساء، إلا إذا توفرت إرادة حقيقية على مستوى التشريع والقضاء والإعلام ومؤسسات المجتمع ككل، لإيقاف هذا المد الخطير في التدني الأخلاقي والقيمي داخل المجتمع الذي تغذيه شبكات التواصل الاجتماعي.

وتعتبر الحياة الخاصة للأفراد من الاستثناءات الواردة على الحق في الحصول على المعلومات كما أسس لذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي نص في المادة 12 منه على أنه “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة، أو شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل، أو تلك الحملات” وهو ما أكده العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وغيره من المواثيق الأممية، بما يجعل الحياة الخاصة للأفراد من الحدود التي لا يمكن التعدي عليها بمقتضى القانون الدولي ولو كان ذلك بمبرر حرية التعبير.

هذا التوجه سار فيه كذلك، المشرع الدستوري المغربي، من خلال الفصل 24 من دستور 2011 الذي أكد أنه “لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة”، وهو ما أكده الفصل 27 عند تنصيصه على أنه “لا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون، بهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع الوطني، وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي، والحياة الخاصة للأفراد، وكذا الوقاية من المس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة”، كما اعتبر الفصل 28 من الدستور عند تناوله لحرية الصحافة أنه “للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد عدا ما ينص عليه القانون صراحة”.

وفي هذا السياق يوفر المشرع مجموعة من الضمانات القانونية لحماية الحياة الخاصة للأفراد ومعطياتهم الشخصية من أي انتهاك، ندرج من بينها، القانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات، الذي استثنت المادة السابعة (7)منه، في فقرتها الأولى، من الحق في الحصول على المعلومات، تلك المتعلقة بالحياة الخاصة للأفراد أو التي تكتسي طابع معطيات شخصية، والمعلومات التي من شأن الكشف عنها المس بالحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور.

كما يتضمن القانون المتعلق بالصحافة والنشر مجموعة من الضمانات لحماية الحياة الخاصة للأفراد، حيث نصت مادته السادسة (6) على أحقية الصحافة في الولوج لمصادر الخبر والحصول على المعلومات من مختلف المصادر، مع استثنائها المعلومات ذات الطابع السري والتي تم تقييد الحق في الحصول عليها طبقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 27 من الدستور، والتي تندرج ضمنها الحياة الخاصة للأفراد. كما أكدت المادة السابعة (7) منه أنه “تحترم قرينة البراءة وكافة ضمانات المحاكمة العادلة في قضايا الصحافة والنشر وفقا لأحكام الدستور والقوانين الجاري بها العمل”.

وجاءت المادة 89 من نفس القانون لتؤكد على حماية الحياة الخاصة للأفراد، معتبرة أنه “يعد تدخلا في الحياة الخاصة كل تعرض لشخص يمكن التعرف عليه وذلك عن طريق اختلاق ادعاءات أو إفشاء وقائع أو صور فوتوغرافية أو أفلام حميمية لأشخاص أو تتعلق بحياتهم الخاصة، ما لم تكن لها علاقة وثيقة بالحياة العامة أو التأثير على تدبير الشأن العام”، ويضيف الفصل أنه في حالة تم النشر بدون موافقة ورضى مسبقين وبغرض المس بالحياة الخاصة للأشخاص والتشهير بهم، يعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في الفقرة الأولى من المادة 85 المتعلقة بالقذف، والتي تتمثل في غرامة تتراوح قيمتها بين 10.000 و100.000 درهم.

ويعتبر العنف الرقمي من أشكال العنف التي باتت تعرف انتشارا واسعا، لذلك تضمن القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، مجموعة من المقتضيات، لتعزيز الحماية القانونية للنساء بالفضاء الرقمي، ومن بينها تنصيصه في الفصل 447.2 على أنه “يعاقب بالحبس من سنة واحدة إلى ثلاث سنوات وغرامة من 2000 إلى 20.000 درهم، كل من قام بأي وسيلة بما في ذلك الأنظمة المعلوماتية، ببث أو توزيع تركيبة مكونة من أقوال شخص أو صورته، دون موافقته، أو قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة، بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم”. إلا أنه رغم هذه المقتضيات القانونية، ظلت حماية النساء داخل الفضاء الرقمي تشكل تحديا حقيقيا مع انتشار مظاهر التشهير والابتزاز باستعمال وسائل إلكترونية، وممارسة العنف بشتى أشكاله.

لا سيما، وأن نتائج البحث الوطني للمندوبية السامية للتخطيط حول انتشار العنف ضد النساء لسنة 2019، تؤكد مدى انتشار العنف الإلكتروني، حيث كشفت أن حوالي 14 ٪ أي ما يقارب 1,5 مليون امرأة وفتاة كن ضحايا للعنف الإلكتروني. وفي هذا الاتجاه سلط “الإعلان العربي لمناهضة جميع أشكال العنف ضد المرأة والفتاة” الذي تم إطلاق فعالياته في دجنبر 2022 بدولة الإمارات العربية المتحدة، الضوء على الأبعاد الخطيرة للإشكاليات المرتبطة بالعنف ضد النساء والفتيات، لاسيما مع بروز أشكال جديدة من العنف الرقمي، من بينها تفشي خطاب الكراهية المعادي للمرأة وإساءة استخدام الصور لانتهاك حياتها الخاصة.

وهو ما يمكن اعتباره شكلا من أشكال العنف الرمزي الذي يكرس سلطة المجتمع الذكوري، ويعطل أي نقاش حقيقي حول الحريات الفردية وحقوق الإنسان ببلادنا، في ظل ازدواجية المعايير في التعاطي مع قضايا المساواة بين النساء والرجال في الحقوق والحريات، بين الحرية المطلقة للرجل في التصرف في حياته الخاصة، وتقييد حرية المرأة واستباحة حياتها الخاصة وجعلها مادة خصبة للتشهير والمحاكمات الجماهيرية، في ظل الثقافة الذكورية التي لازالت تتغلغل في المجتمع، والتي باتت تفضحها شبكات التواصل الاجتماعي في كل مرة، مما يؤدي إلى تكريس مظاهر التمييز ضد المرأة في الواقع والمواقع، على حد السواء، رغم التطور الذي عرفه الإطار الدستوري والقانوني المغربي في مجال حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين.

وهو ما وجب معه التأكيد على ضرورة تعزيز صور حماية المرأة، التي لازالت تعاني من مختلف مظاهر التمييز والعنف، داخل الفضاء الرقمي استنادا إلى ما تتوفر عليه المنظومة التشريعية من ضمانات، مع التطبيق الصارم للقانون على هذا المستوى من طرف القضاء، مع ضرورة التوجه نحو مراجعة شاملة للقانون الجنائي، من خلال إعادة النظر في فلسفة وثوابت السياسة الجنائية، وتعزيز حماية الحريات الفردية والجماعية للمواطنات والمواطنين، فضلا عن حماية الحياة الخاصة للأفراد التي أصبحت “مستباحة” على مواقع التواصل الاجتماعي في ظل التطور التكنولوجي الذي بات يشكل تحديا حقيقيا أمام حماية الحريات وحقوق الإنسان.

مع ضرورة تعزيز الحماية الجنائية للنساء والقطع مع كافة أشكال التمييز التي تنطوي عليها المنظومة الجنائية ومختلف مظاهر العنف الذي تتعرض له المرأة باسم القانون، ضد إنسانيتها وكرامتها وحقها في الخصوصية، بمبرر حماية “عِرض” المجتمع، الذي بات مشوها بالتناقض الصارخ بين ما يتم التعبير عنه عبر المواقع من استنكار للأحداث وأخذ موقع المفتي المعصوم عن الخطأ، أثناء الخوض طولا وعرضا في الحياة الخاصة للمرأة وتشريح جسدها دون أدنى حق، وبين انتشار هذه الممارسات بشكل واسع على مستوى الواقع وفي أحيان كثيرة من طرف الذين يرتدون جلباب الأخلاق والعفة على مستوى العالم الافتراضي.

من الضروري الإشارة في الأخير، إلى أن الصرامة في تطبيق القانون والإصلاح التشريعي المنشود، رغم أهميته، يظل غير كاف، لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، لذلك ستبقى الحاجة ملحة “لصحوة مجتمعية حقيقية” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مع تدعيم ذلك بمداخل أساسية مرتبطة بالاستثمار في منابع التنشئة الاجتماعية، وعلى رأسها التعليم، الذي عليه أن يلعب الأدوار اللازمة على مستوى تملك القيم المجتمعية النبيلة ومبادئ حقوق الإنسان وحرياته والمساواة بين الجنسين، بالإضافة إلى دور الإعلام الجاد، الرسمي وغير الرسمي، الذي يحمل على عاتقه مسؤولية المساهمة في مواجهة هذه الظاهرة، فضلا عن دور الأسرة التي تشكل أساس التربية على القيم الأخلاقية، مع تسجيل دور المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني ومختلف القوى الحية بالبلاد، في مواجهة هذه الممارسات التي تضرب في العمق ما تبقى من رصيد على مستوى القيم الأخلاقية، وتؤثر على المسار الإيجابي الذي قطعته بلادنا على مستوى تعزيز الحقوق والحريات.