story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

انتخابات الشركات

ص ص

وضعت الحكومة أخيرا على طاولة البرلمان حزمة مشاريع قوانين انتخابية، تُفاجئ قارئها بأبواب التمويل وأرقام الدعم وشروط المنح، أكثر مما تشغله بأسئلة التمثيل والوساطة والتنافس الانتخابي.

الجديد هذه المرّة، في عادة قبيحة أصلا هي تفصيل القوانين على المقاس عند كل انتخابات، ليس فقط رفع سقف التبرعات وإتاحة القروض وفتح المجال للأحزاب لتأسيس شركات ربحية في الإعلام والطباعة والتواصل؛ بل جعل المال ذاته محرّكا رئيسيا لتحقيق أهداف كان يفترض أن تُنال بأدوات السياسة، أي شباب يدخلون المعترك العام، ونساء يوسّعن الحضور، وأشخاص في وضعية إعاقة يجدون منفذا عادلا إلى التمثيل.

العقل الذي صاغ هذه المشاريع يراهن على “الحافز المالي” لتعويض هشاشة العرض السياسي، ويعامل الأحزاب كما لو أنها مقاولات تبحث عن تدفقات نقدية، لا وسطاء يصوغون برامج، ويصنعون رأيا، ويحمون المجال العام من الانزلاق نحو الزبونية.

حين يربط التشريع الدعم العمومي بالمردود العددي للفئات المُمَـيَّزَة، ويرفع معامل المكافأة عند فوز امرأة أو شاب أو شخص في وضعية إعاقة، ويمنح تمويلا للمؤتمر الاستثنائي بشرط أن يُفضي إلى انتخاب قيادي جديد؛ فإن الرسالة واضحة: قدّم “الخدمة” وخذ المال.

مشكل هذا المنطق ليس في التحفيز بحد ذاته، فالسياسات الحديثة تستخدم الحوافز لضبط السلوك العام، بل في أن الحافز هنا يحاول القيام مقام السياسة.

مشاركة النساء والشباب والإدماج السياسي لفئات مهمّشة لا تُبنى ب”بريمات” تحوزها الأحزاب على المقاعد، ولا بشيك لعقد المؤتمر؛ بل تُبنى بمنسوب ثقة، وبمدرسة حزبية، وبقواعد داخلية ديمقراطية، وببيئة تنافسية تسمح للمعنى أن يسبق الإغراء.

أكثر من ذلك: ما يُقدَّم بوصفه “سوقا” لتحديث السياسة، لا يبدو تنافسيا على الطريقة الليبرالية. والدخول إلى هذا “السوق” نفسه صار أعسر: عدد المؤسسين لأي حزب جديد ارتفع، ونطاق التغطية الجهوية شُدِّد، وعتبة المؤتمِرين عَلَت، والباب الذي كان مواربا أمام محاولات التنظيم السياسي الجديد، أُحكِم إغلاقا باسم “الجدية” والوحدة الوطنية.

نحن إذن أمام نموذجين متوازيين ومتناقضين: تشديدٌ في مدخل تشكيل العرض السياسي الحزبي، وتوسيعٌ سخيّ في مخرجات التمويل لمن ينجح في اجتياز العتبة. والنتيجة المنطقية هي منظومة أقل تعددية في العرض، وأكثر تسييلا للطلب.
على الضفة المقابلة، تُفتح الطريق أمام لوائح شبابية مستقلة بتوقيعات لا تتجاوز مائتي ناخب في الدائرة، مع تمويل يصل إلى ثلاثة أرباع كلفة الحملة، يُقتطع عمليا من التمويل المخصّص للأحزاب.

تبدو هذه الصيغة في ظاهرها، تمكينا لجيل جديد من دخول السياسة من خارج “بوابة التنظيمات العتيقة”. بينما في باطنها، هي وصفة لتشتيت الأصوات في الدوائر المحلية، وتمكين ذوي النفوذ المالي من “الاستثمار” في لوائح شبابية لاقتطاع حصص من منافسين حزبيين، أو لتمهيد الطريق لأبناء وشركاء ضمن خرائط الولاء الانتخابي.

كل هذا يجري في أفق يُعاد تشكيله على صورة السوق، لكن بسِمات “السوق المغربي” بكل مميّزاته: تركيزٌ عند القمة، وريـعٌ في المدخل، وتنافُسٌ مُفَـرغ من السياسة في المخرج.

يكتمل هذا التصور حين نطالع التوسيع الممنهج لاقتصاد الحزب، عبر شركات للطباعة والنشر والتواصل والإعلام تحت مظلة الحزب، وقروض بعقود وآجال للتسديد…

يبدو ذلك على الورق تجديدا تقنينا متقدما ومطلوبا. لكن حين يقترن بزيادة سقف التبرعات الفردية، وبربط الدعم بمخرجات انتخابية محددة، ينزلق الحزب أكثر نحو “مقاولة سياسية” مؤهلة لتحصيل العائد بدل هيئة سياسية تحوز الشرعية بالمعنى المدني، أي بإنتاج الأفكار، وصناعة الأطر، وحماية النقاش العمومي، وتوسيع دوائر المشاركة المنظمة.

المال ليس خطيئة؛ لكن لا يمكن أن نعهد إليه بتصحيح ما أفسدته السياسة. أي أن نحمّله مهمة إعادة الاعتبار للوساطة الحزبية، ونطالبه بصناعة المعنى حيث جفّت ينابيع الثقة.

الأكثر إثارة للقلق هو الوجه الزجري الجديد. عقوبات سجنية بين سنتين وخمس سنوات وغرامات ثقيلة ضد من ينشر “أخبارا زائفة” أو “تركيبات” أو يشكك في نزاهة الانتخابات، مع تمديد المسؤولية إلى شبكات التواصل وأدوات الذكاء الاصطناعي.

لا خلاف حول حماية الحياة الخاصة ولا في ردع التشهير والتلاعب الرقمي. لكن الديمقراطية لا تُصان بتجريم الشك المؤسس على رأي أو على مساءلة عمومية. لن تستعيد الدولة الثقة بتهديد من يطرح أسئلة على سير المسلسل الانتخابي، مثلما لم تُستعد الثقة يوما بتجريم الدعوة السلمية للمقاطعة.

حماية العملية الانتخابية تمر عبر إدارة مستقلة وحياد فعلي وشفافية بيانات تفصيلية، لا عبر عصا غليظة تجرّم “التشكيك” نفسه قبل أن تُثبت للمواطنين ألا شيء يستدعي الشك.

ما الذي يريده هذا التشريع الجديد إذن؟

إنه يريد انتخابات “مؤمَّنة” ضد الفوضى الرقمية، ومُطعَّمة ماليا لضمان مشاركة الفئات المرغوب فيها، ومغلقة نسبيا في وجه ولادة تنظيمات جديدة.

إنه يريد حقلا سياسيا مُهندَسا من الأعلى، يتحرك فيه المال كرافعة أساسية، وتُدفع فيه الأحزاب إلى “تحسين الإنتاجية” عبر حوافز ومكافآت. غير أن السياسة، كما يعرّفها علمها، ليست إدارة الحوافز وحدها، بل بناء للشرعية، وتوسيع للتمثيل المنظم، وإتاحة منافسة برامجية.

ما المطلوب إذن؟
• أولا، إعادة التوازن بين التحفيز المالي والبناء السياسي. الدعم مرتبط بالنتائج لا بأس، لكن اجعلوا جزءا معتبرا منه مشروطا بالتزامات داخلية: ديمقراطية داخلية حقيقية، وتناوب على القيادة دون اشتراط جزرة مالية، وتكوين وإبراز الأطر، وحضورٌ دائم في التأطير لا في موسم الانتخابات فقط، والتزامٌ شفاف بنيل التمويل من مصادر نظيفة.
• ثانيا، افتحوا مدخل التعددية بدل إحكامه. شروط الجدية يمكن ضمانها بآليات تحقق وتتبّع، لا برفع العتبات إلى مستويات تُحوّل التأسيس إلى امتياز.
• ثالثا، انقلوا النزاهة من خانة “العقوبة على الشك” إلى خانة “الشفافية الاستباقية”. وحقّقوها عبر نشر تفصيلي للنتائج والطعون والخرائط، وولوج حقيقي للمراقبة المستقلة، وضمانات حياد في الإدارة الترابية ووسائل الإعلام العمومية.
• رابعا، أعيدوا تعريف دور الأحزاب في القانون باعتبارها هيئات وظيفتها التربية السياسية وصناعة البدائل، لا “شركات سياسية” توسّع محافظها عبر مزيد من الأنشطة المدرة للدخل.

إن كنا نريد انتخابات تُنتج مشهدا قابلا للحكم والمساءلة، فعلينا أن نكفّ عن معاملتها كـ“سوق محمية”، وأن نعيد لها معناها الأول، أي ساحة تنافس تُدار بالبرامج، وبوساطة حزبية حقيقية، وبحرية تعبير لا تخاف النقد، وبقواعد لعب لا تتغير كل موسم.

غير ذلك، سنحصل على لوائح أكثر، ومقاعد موزَّعة على نحو أدق، لكننا سنظل نفتقد ما هو أثمن: السياسة نفسها.