story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

“اليد الميتة” لبوتين

ص ص

أصوات طبول الحرب ترتفع بشكل غير مسبوق في محيط روسيا. أوكرانيا تتسلم منظومة صواريخ باتريوت من إسرائيل. وعلى طريقة اتهام العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، الغرب يتهم روسيا دون أي دليل باختراق المجال الجوي لدول الجوار المنتمية لحلف الناتو، مثل بولونيا، وبلغاريا، ورومانيا، في سعي منه لتبرير استعمال المادة الخامسة من ميثاق حلف الأطلسي.

روسيا من جهتها تهدد برد حازم وحاسم على أي عدوان أطلسي. لقد فشل الغرب لمدة ثلاث سنوات ونصف في جر روسيا للبدء بالعدوان على دول الحلف، فقرر أن يعتدي على نفسه وينسب ذلك لموسكو. ومن نافلة القول إن روسيا كانت تنتظر هذا اليوم وأعدت له خططه وعدته، ومن الواضح والأكيد أن روسيا لن تنتهج في مواجهتها مع الحلف الأطلسي نفس استراتيجيتها ضد أوكرانيا، ذلك أن روسيا في مواجهة أوكرانيا ليست مستعجلة من أمرها لأنها تدرك التفوق الكبير بينها وبين الجيش الأوكراني، وبالتالي فهي تعول على إنهاكه واستنزافه واستنزاف كييف سياسيا واقتصاديا.

لكن في مواجهة الحلف، هناك منطق آخر مختلف تماما، فالحلف بدوله الاثنتين والثلاثين، يتفوق عدداً وعدة على روسيا، وبالتالي ليس في مصلحة موسكو خوض حرب طويلة الأمد لأنها وبشكل منطقي قد تنهزم فيها على اعتبار أن الحرب طويلة الأمد هي بالضرورة حرب تقليدية أو هجينة وغير نووية .

إن أي عدوان مهما كان صغيرا من طرف حلف الناتو على روسيا سيتسبب حتما ومباشرة في لجوء روسيا للأسلحة النووية التي تعتبر مكمن تفوقها .

صحيح أن روسيا تتوفر على ترسانة من الأسلحة الصاروخية المتطورة جدا، والمدمرة جداو مثل “كينجال” و”إسكندر” و”سارمات” و”تسيركون”، وأخيرا “أوريشنيك”، لكن العديد من هذه الصواريخ، إن لم تكن كلها، قابلة لحمل رؤوس نووية. وروسيا لا تريد أن تكون أول من يتعرض لضربة نووية قد تشل قدرتها على رد الفعل.

صحيح أن منظومة ” اليد الميتة” النووية الروسية قد تكون كفيلة بقصف دول الغرب نوويا، لكن من المعروف أن هذه المنظومة لا تُفعل إلا أوتوماتيكيا إذا تم تدمير أنظمة الدفاع والاتصال الروسية بالكامل. بمعنى أن نظام “اليد الميتة” بالنسبة لمن لا يعرفه هو نظام قيادة وتحكم تلقائي أو شبه تلقائي، طوره الاتحاد السوفييتي في زمن الحرب الباردة، وما زال مستخدما في روسيا حاليا. وصمّم هذا النظام لتنفيذ ضربة نووية انتقامية حتى في حالة تدمير القيادة العسكرية والسياسية العليا للبلاد تماما.

معنى ذلك أن البلاد ستكون حينها شبه مدمرة، وبالتالي لا تريد ولا ترى موسكو، أي ربح في الاضطرار إلى الوصول لهذه المرحلة، وقد قال بوتين في أحد حواراته: “لقد علمتني شوارع ستالين غراد أنه إذا كان لا بد من المواجهة فمن الأحسن أن تكون أنت من يضرب أولا”. وفي هذا الكلام تحذير واضح بأن روسيا إذا ما أحست باشتداد الخطر فستكون، وليتذكر الجميع هذا الكلام، أول من يضرب وبقوة، لدرجة أنه من المحتمل أنه لن يكون للعديد من الدول وخصوصا الأوروبية منها الوقت لرد الفعل .

المواقع النووية الفرنسية والبريطانية وعواصم أوروبية وآسيوية أخرى قد تدمر بالكامل، وربما المواقع الأمريكية أيضا، إذا لم يكن هناك اتفاق روسي أمريكي تحت الطاولة. والأمريكان قادرون بالفعل على إبرام اتفاق من هذا النوع لتجنب مواجهة مباشرة مع روسيا .

أما فيما يتعلق بحجم الدمار فيكفي أن نعلم أن صاروخ سارمات واحد قادر على حمل عشرة رؤوس نووية وتدمير منطقة بمساحة باريس بالكامل .

إن تدوينة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة والتي تحدث فيها على سهولة هزيمة روسيا التي وصف جيشها ب “نمر من ورق” وكلامه كذلك على أن “أمريكا ستستمر في بيع السلاح للأوروبيين وليفعلوا به ما يريدون”. كل هذا الكلام يشتم فيه رائحة صفقة “بيع أوروبا” لموسكو، والزج بالطرفين في حرب مدمرة متبادلة، ليخلو الأمر لواشنطن في مواجهتها مع الصين .

إن اختلاف الرؤى السياسية والمصالح الجيوستراتيجية بين دول الناتو، والتفاوت في الاستعداد والعدة، وغياب اقتناع المجتمعات الغربية بالمسوغات التي يسوقها الإعلام الرسمي لتبرير المواجهة مع روسيا بما يحرم آلة الحرب الغربية من الدعم الشعبي، وهشاشة البنية العسكرية للعديد من الدول الأطلسية المحيطة بروسيا، باستثناء بولونيا التي تحولت إلى قاعدة عسكرية أمريكية متقدمة على حدود روسيا، بما يجعل منها واحدة من أول الأهداف للقصف الروسي المحتمل. كل هذه أسباب ستجعل من خوض حرب مع روسيا أمرا في غاية المخاطرة بالنسبة للغرب بشكل عام وأوروبا بشكل خاص.

من جهة أخرى، وبينما يعول الغرب على حرب جوية وبحرية ضد روسيا بحكم التفوق الذي يملكه في هذين المجالين، 22 ألف طائرة حربية للغرب في مقابل 4 آلاف و500 فقط لروسيا و2200 بارجة حربية للغرب في مقابل 700 لروسيا، بما في ذلك 17 حاملة طائرات للغرب مقابل واحدة فقط لروسيا…

قلنا بينما يعول الغرب على الجو والبحر لمحاصرة وتدمير روسيا، تعول هذه الأخيرة على تفوقها الصاروخي الكبير على الغرب، وقد أثبتت الحرب الإيرانية-الإسرائيلية أن القوة الصاروخية حاسمة في مواجهات العصر الحديث، لذلك ستلجأ روسيا لهذا السلاح مع احتمالات كبيرة جدا لتجهيز هذه الصواريخ برؤوس نووية لحسم المواجهة في أقصر وقت، كما أن هذه القوة الصاروخية قادرة على إبطال التفوق البحري بسرعة كبيرة. والأخطر من ذلك والأهم والأكثر حسما، هو قدرة الصواريخ الروسية على تدمير الأقمار الاصطناعية التجسسية الأمريكية في وقت قصير، وهو ما سيتسبب في ما يمكن تسميته ب “العمى الاستخباراتي” الذي سيصيب أنظمة الهجوم الجوي والبحري الأطلسية وقدرتها على الملاحة والمناورة، ويجعلها في متناول روسيا التي سيكون بمقدورهما استعمال أقمار التجسس الصينية والكورية الشمالية. وقد سبق لروسيا كما للصين أن قاما بتدمير أقمار اصطناعية استخباراتية في ملكيتهم من أجل توجيه تحذير مبطن بهذا الخصوص لأمريكا التي تعتمد اعتمادا كليا على الاستخبارات الإلكترونية، وأوروبا التي تعتمد بدورها على الاستخبارات الأميركية.

إن ما يسوقنا إليه الغرب وأوروبا بشكل خاص هو أقرب إلى الانتحار الجماعي منه لشيء آخر .