الميثاق الاستراتيجي الغائب.. تشرذم العالم الإسلامي في عصر التكتلات الجارفة

إنّ النظام العالمي أشبه بكتاب مترابط البنية، لا يمكن فهم أحد فصوله فهمًا شاملاً من دون قراءة الكتاب بأكمله، وإدراك الإشكالية المركزية التي تشكل خلفيته العامة. فكما لا تُفهم فصول الكتاب الجزئية إلا في ضوء سؤاله الكلي، لا يمكن فهم وقائع السياسة الدولية بمعزل عن البنية العامة التي تنتظمها.
هذه مقاربة التحليل البنيوي في العلاقات الدولية، التي ترى أن النظام العالمي – بما فيه من تراتبية، وتوزيع للقوة، ومراكز للهيمنة – يشكّل الإطار الحاسم لفهم ديناميات الصراع بين الفاعلين الدوليين.
من هذا المنطلق، لا يمكن فهم الصراع الإيراني الإسرائيلي فهمًا دقيقًا ما لم يُدرَج ضمن السياق الأوسع لصراع دولي أشمل، تتواجه فيه قوى كبرى تسعى كلٌّ منها إلى إعادة تشكيل النظام العالمي بما يخدم أجنداتها، المعلَنة منها والمضمَرة.
ومِن أبرز هذه القوى يظهر ما يمكن تسميته بـ”الغرب-الامبريالي”، في إشارة إلى الامتداد الجيوسياسي للتحالف الأمريكي–الأوروبي، بوصفه مشروعًا مركزيًا للهيمنة على النظام العالمي.
ويُستخدم هذا التوصيف للتمييز بين البنية المهيمنة ضمن العالم الغربي، وبين مكوّناته الأخرى التي تضم أصواتًا فكرية ومجتمعية ناقدة لهذا المسلك الإمبريالي، لكنها تبقى – في الغالب – مهمّشة أو خارج دوائر التأثير الفعلي في صناعة القرار السياسي.
الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي في أجندة الهيمنة الغربية
السؤال المفيد طرحه هنا هو: ما موقع العالم الإسلامي في أجندة هذا الفاعل الغربي؟ هل تغيرت رؤيته للعالم الإسلامي أم لا يزال يعتبره تهديدا وجوديا رغم ضعف المسلمين الكبير مقارنة بتفوقه؟
وللإجابة عن هذا السؤال، يكفي أن نفتح خريطة العالم ونُلقي نظرة متأنية على موقع أوروبا، ونتمعن في الحزام العريض الذي يحيط بها من الشرق إلى الجنوب الغربي: تركيا، سوريا، لبنان، فلسطين، السعودية، مصر، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب. ومن خلف هذا الحزام المباشر، تمتد دول محورية أخرى كالعراق، وإيران، وباكستان، وأفغانستان…
هذا الامتداد الجغرافي قد يبدو في نظرنا مجرد فسيفساء من الدول الإسلامية المتفرقة، لكنه في وعي الغرب السياسي يُمثّل شيئًا مختلفًا تمامًا: مشروع وحدة إسلامية محتملة، يظل كامناً وقابلاً للإحياء في أية لحظة.
وحدةٌ إذا ما تحقق حدّها الأدنى، فإنها تطوّق أوروبا استراتيجيًا، وتستعيد السيطرة على مفاتيح جغرافية حيوية وموارد طاقية واقتصادية بالغة الأهمية.
ومن هنا، فإن السياسي الغربي، الذي يتحرك عادة بوَعْيٍ تاريخي حاد وذاكرة استراتيجية طويلة، لا ينسى الصراع المزمن مع أشكال هذه الوحدة، وفي مقدمتها الدولة العثمانية، التي مثّلت تحديًا وجوديًا لمشروعه التوسعي.
لذلك، لا تُدرَك فكرة الوحدة الإسلامية، في الوعي الاستراتيجي الغربي، كمجرد طموح ثقافي أو ديني أو حتى سياسي مشروع، بل يُنظر إليها بوصفها خطرًا بنيويًا يهدد تماسك تحالفاته الإقليمية، ويقوّض منظومة الهيمنة التي أعاد بناءها بعد مرحلة الاستعمار المباشر.
لا يعني ذلك أن القطب الغربي يرى في قيام تكتّل إسلامي موحَّد خطرًا وشيكًا في المرحلة الراهنة، لكنه يعتبره احتمالًا مستقبليًا مقلقًا، يستدعي مراقبة دائمة واستراتيجيات تحصين استباقي.
ومن ثمّ، تُصاغ السياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي ضمن منطق “الاحتواء المبكر”، الذي يسعى إلى كبح أي دينامية تكتلية، حتى وإن اتخذت طابعًا إقليميًا محدودًا.
ويشكّل نزاع الصحراء المغربية في منطقة المغرب العربي مثالًا صارخًا على هذا النمط من المعالجة، حيث تُوظّف النزاعات المحلية كأدوات لتعطيل التبلور الجيوسياسي لوحدة إقليمية محتملة.
لقد حدد الغرب-الاستعماري موقع خصمه الاستراتيجي منذ زمن بعيد، وظلّ العالم الإسلامي في صدارة أجندته، وإن تغيّرت أدوات الهيمنة من احتلال مباشر إلى آليات أكثر تعقيدًا: التفتيت، الإضعاف البنيوي، والهيمنة الثقافية والاقتصادية.
لم يعد مشروع الهيمنة الغربية المعاصرة بحاجة إلى وجود عسكري مباشر ودائم، بل اكتفى بإرساء واقع سياسي هشّ لعالم إسلامي مفكك، يُدار عبر وكلاء محليين ومنظومات تابعة.
وفي قلب هذا العالم المختلّ، شكّل زرع الكيان الصهيوني إحدى أبرز أدوات الضبط والتحكم، بما يمثله من وظيفة استراتيجية دائمة في منع أي تبلور لتكتل إسلامي مستقل.
هذا الدور الوظيفي للكيان الصهيوني لم يعد خافيًا، بل بات يُصرَّح به علنًا في الأوساط السياسية الغربية. فقد أوضح روبرت كينيدي جونيور، في معرض إجابته عن سؤال يتعلق بأسباب الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، قائلا: “إذا اختفت إسرائيل، سيحدث فراغ في الشرق الأوسط… إسرائيل سفيرتنا، إنها وجودنا ورأس حربتنا في المنطقة. إنها سمعنا وبصرنا هناك، وتمنحنا المعلومة الاستخباراتية والقدرة على التأثير. وإذا اختفت، فإن روسيا والصين ستسيطران على الشرق الأوسط وعلى 90% من إمدادات النفط، وسيكون ذلك كارثيًا على الأمن القومي الأمريكي”.
صعود الصين وفرصة الانعتاق من الهيمنة الغربية
غير أن العالم الإسلامي ليس وحده على لائحة الخصوم الاستراتيجيين للمنظومة الغربية، تبرز في السياق الدولي الراهن، الصين بوصفها التحدي الأخطر والأكثر إلحاحًا. وهنا ينبغي التوقف طويلًا، لأن صعود الصين يمثل نقطة مفصلية في إعادة تشكيل النظام العالمي.
فلم يعد الغرب يصول ويجول كما يشاء في الساحة الدولية، إذ بات له منافسون جادّون يتقدّمون بثبات، ويُعيدون تشكيل توازنات القوة. ورغم محاولات الإيحاء باستمرار تفوّقه المطلق، فإن الأرقام والوقائع تُثبت خلاف ذلك، إذ تواصل الصين توسيع نفوذها من خلال الاستثمار، والتكنولوجيا، والتحالفات الاقتصادية العابرة للقارات، ما يثير قلقًا بالغًا في العواصم الغربية.
وقد تعزّز هذا القلق مع التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا، الذي باغث التقديرات الغربية، وجاء مدعومًا – بشكل مباشر أو ضمني – من بكين، ما أتاح لروسيا قدرة صمود ميداني فاجأت الأوروبيين، وأحدثت صدمة استراتيجية في الحسابات الغربية.
إنّ السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: ما موقع العالم الإسلامي ضمن التصوّر الاستراتيجي للفاعل الدولي الصاعد، الصين؟ وهل تُنظر فكرة الوحدة الإسلامية في الرؤية الجيوسياسية الصينية كاحتمال مقلق يستوجب الاحتواء، أم أنها لا تشكّل تهديدًا بنيويًا على غرار ما تمثّله في العقل الاستراتيجي الغربي؟
لا شكّ في أن القوى الدولية الصاعدة تسعى، في الغالب، إلى تعزيز موقعها الاستراتيجي عبر تحجيم أو تحييد القوى والمشاريع التي قد تمثّل منافسًا محتمَلًا، خاصة في ظل منطق الصراع والمزاحمة الذي طبع تاريخ العلاقات الدولية.
ومع ذلك، تُظهر الصين – حتى الآن – مقاربة مغايرة مقارنة بما عُرف عن الغرب-الامبريالي، فهي لا تُبدي، حاليًا، عداءً وجوديًا تجاه أي مشروع تكتلي في العالم الإسلامي، ولا تتعامل معه كتهديد مباشر لأمنها القومي أو لرؤيتها الدولية.
ويدعم هذا التقدير ما أبانته المصالحة السعودية–الإيرانية في مارس 2023، حيث لعبت الصين دور الوسيط المباشر بين الطرفين، واحتضنت بكين مراسم التوقيع بحضور رسمي صيني، في دلالة واضحة على رغبتها في دعم الاستقرار والتقارب داخل الإقليم، بدلًا من تغذيته بالصراعات كما هو مألوف في السلوك الغربي.
ويرتبط هذا التوجه بجملة من الأسباب، من بينها:
- تحرّر الصين من الإرث التاريخي الصراعي، إذ لا تحتفظ بذاكرة عدائية مشحونة تجاه العالم الإسلامي؛
- فضلًا عن تبنّيها سياسة خارجية تقوم على تقليل الصدامات وتغليب الاعتبارات الجيو–اقتصادية؛
- كما أن انخراطها في سردية “العالم متعدد الأقطاب” في مواجهة الهيمنة الأمريكية الأحادية، يجعلها – نظريًا على الأقل – أكثر تقبّلًا لفكرة نشوء تكتل إسلامي مستقل.
- وجدير بالتنبيه أن المقاربة الصينية للعالم الإسلامي لا تستند بالضرورة إلى اعتبارات أخلاقية أو التزامات مبدئية تجاه شعوبه، بل تُفهم في إطار أوسع من الصراع الجيوسياسي مع الغرب.
وكما يحلل غراهام أليسون في كتابه: “مصير الحرب: هل يمكن لأمريكا والصين أن تتجنّبا فخّ ثوقيديدس؟”، فإن العلاقات بين قوة مهيمنة (الولايات المتحدة) وقوة صاعدة (الصين) تميل تاريخيًا إلى الانزلاق نحو المواجهة، نظرًا لطبيعة الصراع البنيوي بين من يسعى للحفاظ على موقعه، ومن يعمل على إعادة رسم موازين القوى.
ويذهب جون ميرشايمر، من منظور الواقعية الهجومية، إلى أبعد من مجرد ترجيح المواجهة، إذ يعتبرها حتميّة في ظلّ طبيعة النظام الدولي الفوضوي، الذي تحكمه الريبة المتبادلة وتغيب فيه الضمانات المؤسسية. ففي هذا السياق، لا مكان لما يُسمّى بالمرتبة الثانية، لأنّ القبول بها يعني الخضوع الطوعي للهيمنة، والبقاء رهينةً لإرادة القوة المهيمنة.
وانطلاقا من هذا الإطار التحليلي ننظر إلى “الشرق الأوسط”، حيث يشكّل النفوذ الإيراني عائقا أمام التمدد الأمريكي، لا سيما في مرحلة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق، حيث اتّسع نفوذ طهران ليشمل قوسًا تحالفيا يمتد من بغداد إلى دمشق، مرورًا ببيروت وصنعاء.
وهكذا باتت إيران في نظر دوائر القرار الغربي الطرف الإقليمي الأشد قدرة على إرباك استراتيجيات الهيمنة الغربية في أحد أكثر المواقع الجيوسياسية حساسية وأهمية.
تُدرك كلٌّ من الصين وروسيا أن سقوط إيران في هذا السياق لا يعني مجرد إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية، بل يفتح المجال أمام تمدّد غربي سلس في واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية حساسية في العالم. وهو ما يتناقض بوضوح مع مصالحهما الاستراتيجية، نظرًا لما يشكله من تهديد مباشر لمشاريعهما الكبرى في آسيا والشرق الأوسط، ومن تكريس لمنطق الهيمنة الغربية الأحادية الذي تعملان على مقاومته.
غير أنّ الصين – كما غيرها من القوى الدولية – لن تخوض المعارك بالنيابة عن دولٍ إسلامية مفكّكة، ولن تبادر إلى تقديم الدعم إلا بمقدار ما تُظهره هذه الدول من استعداد فعلي لمواجهة المشروع الغربي للهيمنة، وما تتيحه من فرص واقعية لتحقيق تحوّل في موازين القوة.
وعلى أيّ حال، ومهما تكن نتائج التصعيد الغربي ضد إيران، فإن الاعتقاد بأننا بلغنا الفصول الأخيرة من هذا الصراع يبدو ضربًا من السذاجة السياسية، يتجاهل تعقيد المشهد، وتشابك القوى، وطول أمد التحولات الجارية.
العالم الإسلامي: تشرذم في مواجهة تكتلات كبرى
تناولنا فيما سبق طبيعة التحدي الذي يُشكّله الغرب أمام العالم الإسلامي، كما استعرضنا الفرصة الجيوسياسية التي يتيحها صعود الصين في النظام الدولي. وقد بيّنا كيف يقف العالم الإسلامي اليوم في منطقة تماسّ حادّة بين ضغط الهيمنة الغربية من جهة، وآفاق الانفتاح الاستراتيجي التي تتيحها الصين من جهة أخرى، في لحظة دولية مفصلية تستوجب يقظة استراتيجية عميقة.
غير أن التحدي الأعمق – والأكثر حساسية – لا يأتي من الخارج، بل من الداخل ذاته؛ فالتحدي الذاتي هو الذي يحدّد، في نهاية المطاف، قدرة العالم الإسلامي على اغتنام الفرص أو الارتهان للتبعية والتجزئة.
ففي الوقت الذي تنظر فيه القوى الكبرى للعالم بمنظارٍ تكتليّ، حيث تُدير سياساتها وتحالفاتها على أساس الكتل الجيوسياسية والمصالح العابرة للحدود، يظلّ العالم الإسلامي غارقًا في تشتته، عاجزًا عن تشكيل كيانٍ جامع أو حتى تصور استراتيجي مشترك. ما زلنا نخوض معاركنا القُطرية الصغيرة، نتصارع داخل الحدود التي رسمها المستعمر، ونُهدر طاقاتنا في النبش المتكرّر في الخلافات التاريخية، بلا رؤية وحدوية توازي مستوى الصراع العالمي، ولا إدراك جماعي يُحوّل الوجود الإسلامي إلى قوة مؤثرة في النظام الدولي الجديد.
اللافت أن القوى الكبرى كثيرًا ما تنظر إلى العالم الإسلامي باعتباره وحدة استراتيجية، بينما نستمر نحن في التعامل مع أنفسنا كأجزاء مبعثرة، تُفكر وتتحرك بمعزل عن إطار جامع. ونستحضر هنا ما أورده فتح الله ولعلو في مذكراته، إذ ذكر أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قال للملك محمد السادس خلال لقائهما في واشنطن: “المغرب مندرج في جزء من العالم، تنظر إليه إدارتنا كوحدة من المغرب إلى أفغانستان.”
إنّ هذا التشظي الذي يشهده العالم الإسلامي ليس مجرد نتيجة للتعدد، بل هو انعكاس لغياب الرؤية الكلية وضمور الخيال الاستراتيجي، الذي ساهم في تكريسه فشل مشاريع سابقة في تحقيق الوحدة، وعلى رأسها المشروع القومي العربي، الذي رغم شعاراته الوحدوية الطموحة، لم ينجح في تجاوز منطق الأنظمة القُطرية، ولا في بناء مؤسسات جامعة تعيد تشكيل الفضاء العربي بوصفه كيانًا استراتيجيًا متكاملًا. بل إن إخفاقه أسّس لحالة من الشكّ العميق في إمكانية التوحّد أصلًا، وأسهم – من حيث لا يُراد – في تطبيع الوعي مع التشرذم بوصفه واقعًا لا مفرّ منه.
وقد يجادل أحدهم بالقول: ما جدوى الحديث عن وعي وحدة الأمة في ظل واقع سياسي ممزّق، تغيب فيه إرادة التكتل وأدواته؟ ثمّ إن الجميع يدرك – نظريًا – أنّ الوحدة ضرورة لا غنى عنها، فما الذي يُضيفه هذا الوعي إذًا؟ وما الجديد فيه؟
والجواب أن الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل هو الخطوة الأولى في طريق التغيير. إذ لا يمكن خوض أي صراع دون إدراك حقيقي لطبيعته البنيوية، وللمعادلات التي تحكمه. فالواقع لا يتغير من تلقاء نفسه، بل يتشكل بإرادة من يدركون شروطه ويعملون على تجاوزها. والمعادلة واضحة: متفرقين، نظلّ عرضة للابتلاع؛ فقط مجتمعين نمتلك فرصة للوجود الفاعل والمستقل.
إن أي تحرر من الأنظمة التابعة للهيمنة الغربية التي تحكم دولنا لا يمكن أن يتم خارج هذا الإطار الاستراتيجي. هما عمليتان متلازمتان: كل خطوة نحو التحرر الداخلي هي خطوة نحو التكتل، والعكس صحيح.
غير أنّه ينبغي هنا التمييز بين الوعي الحقيقي بوحدة الأمة، وبين مجرّد ترداد الشعارات والمقولات الوحدوية. فالوعي الذي نعنيه ليس انفعالًا ظرفيًا، ولا تعبيرًا وجدانيًا عابرًا، بل هو إدراك تاريخي عميق لطبيعة الصراع وموقع الأمة فيه، ولقانون التكتل بوصفه شرطًا للفاعلية، وهو فريضة شرعية لا قيام للأمة بدونها.
وهذا الوعي، بخلاف الخطاب المناسباتي، لا ينكسر أمام الإخفاقات، بل يزداد رسوخًا كلما ازدادت التحديات، لأنه لا يربط مصيره بنتائج آنية، بل يُؤسَّس كأفقٍ تراكمي يُراكم التجارب والخبرات، وينقلها من مستوى الشعارات إلى منطق الفعل والبناء. إذ هو المدخل الوحيد إلى استعادة فاعلية الأمة.
لذلك، فإن الانطلاقة السليمة تقتضي تأسيس ميثاق استراتيجي جامع للعالم الإسلامي، يُخرجنا من قصور التنظير القومي المنغلق، سواء في صيغته العربية أو التركية أو الفارسية أو غيرها، ومن التخندق المذهبي والطائفي الانقسامي، ويُعيد ترتيب الأولويات، ويحدّد الخصوم الحقيقيين، ويؤطّر الاختلافات ضمن أفقٍ تنوّعيّ لا تصادمي، تمهيدًا لمرحلة جديدة من التراكم التنسيقي، بدل الارتهان لمنطق الاصطدام الانفعالي.
وهذا الورش الاستراتيجي لا يتطلّب إذنًا من الأنظمة القائمة، بل هو في متناول قوى التغيير المجتمعية والفكرية، التي تستطيع أن تضع لبناته الأولى، فتُمهّد الأرضية الفكرية والنفسية لتكتّل سياسي قادم، متى نضجت شروطه.
ومن المبادرات التي قاربت هذا الاتجاه، ما شهدت العقود الأخيرة من محاولات أولية لتقريب المسافات بين التيارات القومية والإسلامية داخل الفضاء العربي، وفي مقدمتها تجربة “المؤتمر القومي الإسلامي” التي انطلقت منذ التسعينيات، وسعت إلى إرساء حدّ أدنى من التنسيق والحوار بين مكوّنات المشروعين في مواجهة الهيمنة الغربية، ودعمًا لقضية فلسطين.
غير أنّ هذه التجربة، رغم رمزيتها وأهمية منطلقها، لم تتبلور إلى تأسيس ميثاق فعلي جامع، كما لم تنجح في تجاوز العوائق الإيديولوجية والهويّاتية التي تُعيق بناء مشروع حضاري وحدوي متماسك.
وهذا ما يُبرز الحاجة الملحّة اليوم إلى مشروع يتجاوز الاصطفافات الضيقة، ويستند إلى الرؤية التكتلية الجامعة للأمة بوصفها بديلاً عن الانغلاق الإيديولوجي، بكل تمظهراته، وعن التنازع العقيم.
من المؤسف أن تستمر القوى الغربية – بعد كل ما ألحقته من تمزق بجسد العالم الإسلامي – في استغلال الانقسامات الداخلية، وإحكام قبضتها على كل جزء من مكوناته على حدة. والمؤسف أكثر أن نرى بعضًا من أبناء الأمة يساهم في تغذية هذه التفرقة، تحت عناوين شتى، لا تخرج غالبًا عن أحد احتمالين: إما انخراطٌ مباشر في مشاريع الهيمنة، أو قصورٌ في إدراك حجم التحديات التي تواجه الأمة في ظل التحولات الدولية الراهنة.
إن واقع الصراع الدولي لا يترك لنا ترف التردد، فالمعركة اليوم بين كيانات سياسية عملاقة، وقوى دولية كاسحة لا ترحم. وإن لم نرتقِ إلى هذا المستوى في التفكير والتموضع ونؤسس لتكتل سياسي ضخم، فسنظل ضحايا نُسحق تباعًا، جيلاً بعد جيل.