story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

المغرب الذي يفوز..

ص ص

عندما فاز شباننا على المنتخب الفرنسي في نصف النهائي كتبنا هنا بعنوان “المغرب الذي نريد“، واليوم بعدما أصبحنا أبطالا للعالم وفزنا على الأرجنتين في النهاية لابد أن نتأمل هذا المغرب الذي يفوز.

المغرب الذي يفوز ليس مجرد فريق يرفع الكأس، بل فكرة تكتسب شرعيتها من النتيجة. فوزُ شبّان المنتخب الوطني بكأس العالم، على حساب الأرجنتين الليلة الماضية، ليس خبرا رياضيا عاديا؛ إنه البرهان الأحدث على أن نصف نهائي 2022 مع وليد الركراكي و«وليداتو» لم يكن نيزكا عابرا في سماء الكرة، بل علامة على مسار يصعد بثبات.

حين تتوالى القرائن، يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة جديدة. إنسان مغربي ناهض يبرع كلّما توافرت له تكافؤ الفرص وبيئة عمل محترفة. عندها يغدو «المستحيل» خبزا يوميا، لا نوبة حماس عابرة.

هذا الجيل وُلد وتدرّب جزء معتبر منه خارج الوطن، وليس في ذلك ما يُنقِص، بل فيه كلّ ما يُضيف: مدرسةُ المهجر تمدّنا بـمواهب صُقلت في تنافس شديد وانضباط تكتيكي وعلوم أداء وطبّ رياضي متقدّم، والمدرسةُ المغربية تُحسن الانتقاء والاحتواء. ربط مبكّر بالعائلة والهوية، وتكليف واضح بالتمثيل الوطني، ومواكبة نفسية وإدارية تُحوّل الانتماء من عاطفة إلى واجب أداء.

هكذا تتشكّل منظومة هجينة لكنها ذكية، عنوانها صرامةُ التكوين الأوروبي تُخصّبها حرارة الانتماء، وشبكاتُ كشف ومتابعة ترصُد المواهب مبكرا، وأطر تقنية تُكيّف اللاعب مع متطلبات المنتخب لا مع مزاج النادي فقط.

والنتيجة ليست مجرد «استقدام أسماء»؛ بل تحويل رأسمال مهاجر إلى قيمة مضافة داخل مشروع وطني، وازدواجية ثقافية تمنح اللاعب مرونة ذهنية، وتعدّدُ مدارس تكتيكية يوسّع خيارات المدرب، ومنافسة داخلية ترفع السقف وتُسقط المحاباة.

حين تُدار هذه الخلطة بقواعد واضحة ومحاسبة صارمة، لا يعود الفوز «ضربة حظ»، بل حصيلة تخطيط وتصميم، وممرّات مكشوفة لاجتذاب المواهب، وبروتوكولات إدماج تحفظ الانضباط وتُطلق الخيال، وفلسفةُ لعب تُعيد تعريف معنى تمثيل القميص: أن تلعب لتفوز لا لتُشارِك فقط.

الرسالة هنا بسيطة وعميقة في الوقت نفسه: حين يَعدلُ الوطن مع أبنائه، يردّون له الدَّيْن مضاعفا. وحين تُبذَل الموارد والحظوظ بعدالة، يتكفّل المغربيُّ بالباقي.

لا بدّ هنا من التنصيص، مرة أخرى، على دور من يقود المنظومة. فوزي لقجع لم يعد يحتاج إلى شهادات إضافية على نجاعة اختياراته التدبيرية: من حكامةِ المنتخبات إلى جرأة القرار، ومن تسويق صورة المنتخب إلى تثبيت ثقافة الفوز.

نعم، لم تتحوّل البطولة الوطنية بعدُ إلى فرجة عالمية، ولم يصبح قطاع الكرة صناعة تصديرية؛ لكنْ حَسْبُ الرجل أنّه حوّل ثروة مغاربةِ العالم إلى رافعة منتظمة للنتائج، وأسّس عقلية «نلعب لِنفوز» بدل «نشارك لِنُمثّل».

في نهاية السلسلة، تُترجم الدبلوماسية هذا الرصيد الناعم، حيث يجد ناصر بوريطة أوراقا إضافية على الطاولة، لأن الكرة ليست ترفا؛ بل مكبِّرُ صوت لصورة المغرب وحضوره.

لكن الدرس الأوسع يتجاوز العشب الأخضر. إنجاز كهذا يُذكّر بأن شابا مغربيا، إذا وُضِع في شروط تنافس عادلة، مع تعليم جيد، وتأطير، وتمويل مُنصف، يصنع الفرق.

وهنا يتجاوب الملعب مع الشارع عبر حراك شبابيّ يطالب بالإصلاح والتغيير والتنمية، ومجلس وزاري برئاسة الملك يضع على المِحكّ إجراءات تشريعية ومالية غير مسبوقة. زيادة نوعية في ميزانيات الصحة والتعليم، وفتحُ بوابات السياسة للشباب عبر تبسيط الترشّح، حتى من خارج الأحزاب، ودعم عمومي يغطي 75% من كلفة الحملة لمن هم دون سن 35 سنة، وتخصيصُ الدوائر الجهوية للنساء…

رياضيا كما سياسيا، جوهر الحكاية واحد: الانتقال من «حسن النيّة» إلى «حسن التصميم». الكرةُ لا ترحم الارتجال؛ وكذلك الإصلاح. تشديدُ العقوبات على العبث بنزاهة الاقتراع يقابله في الملعب صفّارةُ حكم لا تتسامح مع التدخل العنيف. وتبسيط الولوج إلى المنافسة السياسية يُشبه فتحَ باب المنتخب أمام مواهب لم تكن تُرى. ومساءلةُ الأداء العام تعادل مراجعةَ اللائحة بين شوطين.

حين يتأسّس هذا المنطق في الدولة، تتغيّر النتيجة على الأرض.

من حقّ لقجع وطاقمه أن ينالوا نصيبهم من التثمين، ومن حقّ الركراكي ووهبي وباقي مدرّبي الفئات السنية للمنتخب الوطني أن تُحفر أسماؤهم في ذاكرة جديدة للكرة المغربية.

لكنّ حقّ المغرب الأكبر، أن نترجم ثقافةَ الفوز إلى سياسة عمومية، عبر ميزانيات تنفق على الجودة لا على الإعلانات، ومنظوماتِ انتقاء وتكوين في التعليم كما في الرياضة، وتكافؤِ فرص يُحرّر طاقات الأحياء والقرى كما حرّر أقدام اللاعبين.

هذا هو «الإطار» الذي يجعل النتيجة ثمرة، لا مفاجأة.

ولعلّ أجمل ما في هذا التتويج أنه جاء في لحظة سياسية محتدمة. فبين شارع يُطالبُ بالجدّية، ومؤسسة ملكية رفعت سقف الاستجابة، يقدّم المنتخبُ الشابّ الدليل العملي على غياب التناقض بين الطموح والواقعية؛ ما ينقص هو القرار ثم وضع القواعد.

يوم نُحسن تمويل المواهب كما موّلنا الحلم، ونُحسن وضع القواعد كما شدّدنا على نزاهة المنافسة، سنرى كأسا أخرى في التعليم، وكأسا في البحث العلمي، وكأسا في الصحة العمومية.

الكأس هنا مرآة نرى فيها ملامحَ المستقبل حين نجرؤ على ترتيب الحاضر.

اليوم نحتفل. وغدا نُحصي الدروس ونضعها حيث يجب. أي في قانون المالية حيث تُرسم الأولويات، وفي القوانين التنظيمية حيث تُحرس المنافسة، وفي بيوت السياسة حيث آن للأجيال الجديدة أن تقتحم وتُغيّر.

شكرا لشبان المنتخب لأنهم ذكّرونا بالحقيقة البسيطة التي تغيب في ضجيج الكلام: المغرب يفوز حين يأخذ نفسه على محمل الجدّ.