المسطرة المدنية بين يدي المحكمة الدستورية: قراءة قي القرار رقم 255/25 م.د

يشكل القرار رقم 255/25 الصادر عن المحكمة الدستورية بتاريخ 4 غشت 2025 محطة هامة في تطور الاجتهاد القضائي الدستوري بالمغرب، ليس فقط لأنه أعاد التأكيد على مبادئ أساسية، بل لأنه قدم درسًا متقدمًا في كيفية ممارسة الرقابة على العمل التشريعي، مع الحفاظ على احترام عدد من الجوانب التي تهم المشرّع بالدرجة الأولى.
ويأتي هذا القرار ليجيب في الوقت نفسه على أسئلة مهمة، خاصة وأن الأمر يتعلق بقانون بالغ الأهمية، قانون المسطرة المدنية، إذ يضمن هذا القانون احترام حقوق الأطراف ويحقق المحاكمة العادلة، ويُعد أداة أساسية لتفعيل الحق في الوصول إلى العدالة، فهذه الأسئلة المتعلقة بقانون المسطرة المدنية تمس جميع المغاربة، وتفوق أهميتها أي حسابات ضيقة.
لان قانون المسطرة المدنية ليس قانون وزير أو تيار معين، بل هو قانون لكل المغاربة، ومن هذا المنطلق، يمكننا تسليط الضوء على بعض العناصر لفهم قرار المحكمة، لا سيما الأسئلة التي أجاب عنها.
يجيب القرار المذكور على سؤال لا طالما شغل الباحثين والفقه الدستوري وهو:
هل يحق للقاضي الدستوري أن يتفحص نوايا المشرّع؟
وجاء الجواب واضحًا: لا. والقيمة هنا ليست في الرفض ذاته، بل فيما يعنيه هذا الرفض، فهو إعلان هادئ بأن مهمة المحكمة ليست تفسير الخلفيات السياسية أو الحكم على الدوافع الأيديولوجية، بل تقع في نطاق تخصصها القضائي البحت، مبتعدة بشكل كلي عن مجال “النية”.
ومع ذلك، لم يكن القرار انسحابًا من المسؤولية، بل انتقالًا إلى مستوى جديد من الرقابة ان صح التعبير، وهو رقابة الأثر لا رقابة القصد. فالمحكمة، رغم امتناعها عن الخوض في دوافع التشريع، لم تتردد في فحص النتائج المترتبة عليه، ولم تسأل: “لماذا شُرع هذا النص؟”، بل جوابها هم سؤال: “ماذا ينتج عنه؟” وهل تم احترام قواعد الدستور؟، لتبقى بذلك فوق أي اعتبار سياسي أو ظرفي.
من جهة أخرى القرار لم يفحص كل النص لكنه قراره يهم كل النص، ويمكننا هنا أن نطرح سؤال لربما يتبادر لذهن أي مواطن، هل قانون المسطرة المدنية سقط؟ وبلغة من يخوضون هذه المعركة في مربع السياسة، هل قانون وهبي سقط؟ وبشكل آخر وأكثر موضوعية و وضوح، هل المواد التي أشار إليها القرار فقط هي التي سقطت أم القانون برمته؟
يجيب القرار عن ذلك، عبر تفاعله مع إشكالية “الإحالة البيضاء” كما تعرف في الفقه، حيث لم تتضمن الإحالة تحديدًا دقيقًا للمواد أو المقتضيات المزعوم مخالفتها للدستور، وإنما أُحيل القانون كاملاً دفعة واحدة، وهذا ما منح المحكمة صلاحية توسيع رقابتها لتشمل كافة مواد القانون دون استثناء.
وفي هذا الإطار، جاء منطوق القرار واضحًا حين نص على أنه “لا حاجة لفحص دستورية باقي مواد ومقتضيات القانون المحال”، ما يعني أن المحكمة، بعد أن رأت عدم دستورية بعض المواد التي فحصتها، المواد ( 17 ، 84 ، 90 ، 107 … ) ،حيث اعتبرت أن هذه الخروقات كافية لإسقاط القانون برمته، دون الحاجة إلى فحص المزيد من مواده.
وهكذا، فإن سقوط بعض الأجزاء لم يسقط المواد المعنية فقط، بل أودى بالهيكل القانوني ككل، مما يؤكد أن التماسك الداخلي للنص شرط أساسي في سلامته الدستورية، وهذا الموقف يعكس ليس فقط صرامة قانونية، بل أيضًا حسًا مؤسساتيًا رفيعا.
وتأسيسا عليه لم تكن المحكمة بديلاً عن المشرع ولا غير ذلك، بل ضمير الدستور، وبالتالي ضمير الأمة بمعنى من المعاني، وذلك بوقوفها سدا منيعا أمام قانون كان من الممكن أن يمس بالحقوق الدستورية للمغاربة.