story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
دولي |

الغارديان.. ماذا فعلت أثناء الإبادة الجماعية في غزة؟


ص ص

في هذا الوقت، بينما تُنفذ إسرائيل “الحل النهائي” في غزة، وعندما أصبح من المستحيل على أي صوت معارض أن يغير شيئا بالفعل، بدأ الوعي يترسخ ببطء. الآن، بعد أن تحولت غزة إلى أرض مقفرة، مليئة بالمقابر الجماعية وبالأنقاض، بدأ أولئك الذين صمتوا طوال 19 شهرًا في التفوه بكلمات. الآن، بعدما أصبحت إسرائيل والولايات المتحدة لا تحاولان حتى التظاهر بعدم عزمهما على إفراغ غزة والضفة الغربية من الفلسطينيين و”السيطرة” على كامل الأرض. بعد كل ذلك، بدأ بعض الانتقاد الخجول يظهر على السطح.

في المملكة المتحدة، ظهرت أخيرًا كلمة “الإبادة الجماعية”. بعد 19 شهرًا من العنف الممنهج، وحملة التجويع التي امتدت لثلاثة أشهر، قررت المملكة المتحدة الإشارة إلى الوضع بوصفه “فظيعًا”. وقد هددت المملكة المتحدة، مع فرنسا وكندا، – وأنا متأكدة أن قادة إسرائيل يهتزون من هذا التهديد – بأن هناك “ردًا ملموسًا” قد يحدث إذا استمرت عمليات القتل الجماعي والتجويع.

وفي الوقت نفسه، بدأت التغطية الإعلامية تتغير. بعد أن كانت وسائل الإعلام تتبنى حرفيًا مواقف الحكومة الإسرائيلية، بدأ بعض الأسماء الإعلامية الكبرى مثل بيرس مورغان في طرح الأسئلة الصعبة على المتحدثين الإسرائيليين: لماذا لم يُسمح للصحافة الدولية بالدخول بحرية إلى غزة لتشهد ما يحدث بأعينها؟

لكن كل هذا متأخر جدًا، وقليل جدًا. لن يعيد ذلك الطفلة هند رجب، التي قُتلت عندما أطلق الجنود الإسرائيليون 335 رصاصة على السيارة التي كانت محاصرة فيها. لن يعيد ذلك عمال الإغاثة الذين أعدمتهم إسرائيل ودفنوا في قبور ضحلة. لن يعيد ذلك بناء المستشفيات ورياض الأطفال والمراكز الطبية والجامعات التي جُرفت بالكامل على يد آلة الحرب الإسرائيلية. لن يعيد ذلك للأطفال في غزة، الذين يمثلون أكبر مجموعة من مبتوري الأطراف في العالم، أطرافهم. ولن يرفع ذلك الأضرار النفسية العميقة التي ألحقها الجوع، وسوء التغذية، والانقطاع عن التعليم على مدى عامين.

الانتقادات التي نراها اليوم هي مجرد محاولة لتغطية العيوب. معارضة استعراضية وشكلية، بهدف أن يقول السياسيون والإعلاميون -الذين سمحوا وبرروا هذا الوضع المرعب ل 19 شهرا – في المستقبل حينما تكشف الحقائق الكاملة عن حجم المجزرة: “انظروا، لقد قلت شيئًا، لم أكن صامتًا!”

وماذا ستكون إجابتك؟ عندما تقرأ الأجيال القادمة عن غزة وتصاب بالرعب، متسائلين عن سبب صمت العالم الغربي، الذي طالما ادعى التفوق الأخلاقي والتمسك بالقيم الدولية لحقوق الإنسان، عن مجزرة تُبث مباشرة، ماذا ستقول؟ عندما يكتشفون أننا كنا نستيقظ كل يوم على مقاطع فيديو لأطفال يُحرقون أحياء، تم قصفهم بأسلحة ساعدت أمريكا في تمويلها، وقوى الغرب في تبرير استخدامها، هل سيكون لديك الجرأة لتقول إنك نطقت بكلمة؟
العديد من الأشخاص العاديين سيكونون قادرين على رفع رؤوسهم عاليًا والقول إنهم لم يكونوا صامتين؛ أنهم استخدموا أي منصات أو امتيازات كانت لديهم.

لوغان روزوس، الطالب في جامعة نيويورك الذي تم حجب دبلومه لأنه استخدم خطاب التخرج للتنديد بالفظائع التي تحدث في فلسطين، سيكون قادرًا على القول إنه لم يكن صامتًا. الطلاب الذين تم طردهم من جامعة كولومبيا بسبب احتجاجاتهم سيكونون قادرين على القول إنهم ضحوا بمستقبلهم في سبيل العدالة. الممثلة ميليسا باريرا، التي تم طردها من فيلم “Scream 7” بسبب منشوراتها المؤيدة لفلسطين، سيكون لها الحق في القول إن النزاهة كانت أولويتها.

أما الذين يمتلكون السلطة الفعلية، فلن يستطيعوا أن يقولوا الشيء نفسه؛ لن يستطيعوا غسل الدماء عن أيديهم. من المحتمل أن يتم تحميل مسؤولية هذه الفظائع لبنيامين نتنياهو في النهاية، بينما يحاول الآخرون التنصل من المسؤولية. لكن هذه ليست جريمة إبادة يتحملها نتنياهو وحده. إنها إبادة بايدن-هاريس؛ إبادة ترامب-فانس؛ إبادة كير ستارمر وديفيد لامي. إنها إبادة ساتيا ناديلا، المدير التنفيذي لمايكروسوفت. هذه إبادة وسائل الإعلام الرئيسية، والقائمة تطول.

لم نكن لنصل إلى الوضع الحالي لو لم يكن هناك تجريد من الإنسانية للفلسطينيين، على يد وسائل الإعلام الغربية، ولو لم يكن هناك قمع مستمر للخطاب المؤيد لفلسطين. لم نكن لنصل إلى هذا الوضع، لو لم يساهم الصحفيون الغربيون والرئيس جو بايدن في تهيئة الأرضية للإبادة، من خلال تكرار كذبة أن حماس قامت بقطع رؤوس الأطفال. لم نكن لنجد انفسنا أمام هذا الوضع، لو أن إدارة بايدن كانت قد عملت بالفعل على وقف إطلاق النار بدلاً من ترويج الكذب حول الجهود التي تبذلها لوقف الحرب، وعوض ذلك، منح إسرائيل الضوء الأخضر لفعل ما تشاء. في النهاية، سيحاكم التاريخ جميع هؤلاء.

لكن ربما إنني أفكر بمثالية. ربما أكون ساذجة في اعتقادي أنه حتى إذا تم إرسال الفلسطينيين إلى المنفى في ليبيا، وتحولت غزة إلى منتجع يحمل علامة ترامب، سيكون هناك يوم محاسبة. بعد كل شيء، كم من الأمريكيين أو الأوروبيين يعرفون حقًا عن النكبة؟ كم منهم يعلمون عن عملية “خبزك تكسر” التي نفذتها إسرائيل في 1948 حيث سممت مياه الشرب في القرى الفلسطينية؟ كم من الأمريكيين يعرفون عن راشيل كوري، الناشطة السلمية من واشنطن التي قُتلت على يد جرافة إسرائيلية أثناء محاولتها حماية المنازل الفلسطينية في غزة عام 2003؟

منذ النكبة، تعرضت الأصوات الفلسطينية للقمع المتواصل، بينما تم التقليل من شأن الفظائع التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي (أحد الكتاب الفلسطينيين الذين أعرفهم تعرض مقال له عن الخرائط في فلسطين للسحب من إحدى المجلات الأمريكية المرموقة قبل عدة سنوات، بعد أن رفضت المجلة إزالة الحديث عن النكبة). ومع ذلك، ستسمع دائمًا عن كل فظاعة ارتكبها فلسطيني، وستُعاد على مسامعك مرارًا وتكرارًا الرواية التي تقول إن كل ما يحدث قد بدأ في 7 أكتوبر 2023.

لقد فات الأوان لتحقيق العدالة الحقيقية في غزة الآن. لا يمكننا إعادة الأطفال الذين فقدوا حياتهم. لا يمكننا محو ما حدث. ولكن ليس بعد فوات الأوان لمحاسبة المسؤولين عن الإبادة. يجب توثيق الفظائع. يجب إحصاء عدد القتلى في غزة بدقة حتى نعرف كم عدد الذين تم قتلهم. يجب على وسائل الإعلام أن تتوقف عن ترديد الرقم الرسمي للقتلى، الذي يتجاوز 55,000، دون وضع ذلك في سياق، دون الإشارة إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير عندما نأخذ في الاعتبار الوفيات غير المباشرة بسبب الجوع أو المرض أو البرد.

إذا كنت قد التزمت الصمت حتى الآن، مدعيًا أن الأمر معقد للغاية، وأنك لا تستطيع التدخل، فإن الفرصة ما زالت سانحة لكي ترفع صوتك. إذا كنت في الغرب، فما يحدث في غزة، يحدث باسمك, ويحدث بمال ضرائبك، ومن خلال افعال وسياسات قادتك. إذا كنت في الولايات المتحدة، فقد رحب ممثلوك المنتخبون بهذه الإبادة الجماعية بتصفيق حار. نحن جميعًا متواطئون، رغم أن البعض منا متواطئ أكثر من الآخرين.

إذن، مرة أخرى، فكر في ما ستقوله للأجيال القادمة عندما يسألونك ماذا فعلت في هذه اللحظة. الصمت ليس حيادًا. وصمتك لن يُنسى. كما قال مارتن لوثر كينغ: “في النهاية، سنتذكر ليس كلمات أعدائنا، بل صمت أصدقائنا.”

*أروى مهداوي- الغارديان الأمريكية
*ترجمة: عزالدين العزماني