العمل الطلابي بالمغرب.. الصمت المريب !!

“الجامعة هي الضمير الحي للأمة، وحين يُكمم صوتها، تتحول الأمة إلى جسد بلا روح.” بهذه الكلمات التي تعبّر عن غيرة وطنية صادقة، نستحضر واقع الحركة الطلابية المغربية اليوم، وهي تواجه حصارًا صادمًا، لا يستهدف فقط حرية التعبير، بل يضرب في العمق روح المبادرة والالتزام لدى جيل كامل. هذا الواقع المأزوم يدفعنا للتساؤل: لماذا تتحول بعض الجهات، ممن كانت في يوم من الأيام جزءاً من ذاكرة النضال الوطني، إلى خصم لصوت طلابي أعزل لا يملك سوى قناعته ووعيه؟
لقد كانت الجامعة المغربية، لعقود، نبضًا حيًا للمجتمع، ومنبرا للحوار والتفاعل السياسي والثقافي. من رحمها خرجت قامات وطنية كبرى. في الجامعة آمنت أجيال متعاقبة بأن النقاش داخل أسوارها هو المدخل للإنتقال الديمقراطي. لم تكن مجرد بنايات تُلقّن المقررات، بل كانت فضاءً للجدل الحر، للحلم، ولتشكيل وعي جمعي مبتغاه وطن ديمقراطي يسع الجميع.
كانت الجامعة بيتًا للتعدد الفكري، وميدانًا للطلاب لصياغة أسئلتهم حول المجتمع والسلطة والعدالة. وكلما اشتد خناق السلطة، كانت الجامعة تتنفس أكثر، بصوت عالٍ ومزعج أحيانًا، لكنه ضروري لكل مجتمع لا يريد أن يتحول إلى مقبرة صامتة.
لكننا اليوم أمام مشهد يُدمي القلب. أنشطة طلابية ثقافية ونقابية تُمنع دون مبرر، ومطالب حقوقية تُعرقل، ومبادرات داعمة للقضية الفلسطينية تُحاصر، وكأن الحرم الجامعي أصبح منطقةً محرّمة على الكلمة الحرة. الأخطر من ذلك أن هذه الممارسات لا تُواجَه بالقدر الكافي من الاستنكار، وأن أغلب الفاعلين السياسيين والنقابيين، الذين كانوا في الماضي من دعاة الحرية، يلوذون بالصمت، أو يتعاملون مع هذه الانتهاكات ببرود. لا يمكننا أن ننكر بأن هناك من لا يزال يرفع صوته دفاعا عن الحق، لكن في المقابل نجد الأغلبية تلتزم الصمت المريب، وتغض الطرف عن قضايا الحريات الأساسية كأنها أمور ثانوية أو محرجة.
في لحظة كهذه، لا يعود الصمت خيارًا بريئا، بل يتحوّل إلى موقف سياسي بامتياز. فحين يتعرض الطلبة، وهم قلب المجتمع النابض، للتضييق والتهميش، فإننا لا نخسر معركة مطلبية مؤقتة، بل نفقد جزءً من روح الوطن. الجامعة ليست مكانا محايدا، بل فضاء لتكوين مواطن حر ونقدي. وإن أخطر ما يمكن أن تؤول إليه الأمور ليس القمع ذاته، بل ما يتركه من أثر داخلي: تعوُّد النفوس على الخضوع، وتآكل الإحساس بالكرامة، حتى يصبح القبول بالاستبداد مسألة وقت، لا موقف.
إن الاستمرار في منع الطلبة من التعبير، ومن تنظيم أنشطة فكرية ونقابية وحقوقية، لا يمكن تبريره بأي منطق، لا أمني ولا سياسي. كما أن خنق المبادرات التي تنتصر للقضية الفلسطينية ـ وهي قضية جامعة لعموم المغاربة ـ يعكس مفارقة صارخة بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية. ذلك أن الطالب الذي يرفع صوته لنُصرة فلسطين، أو للدفاع عن حقه في التعليم والكرامة، لا يجب أن يُقابل بالقمع، بل بالإنصات والدعم، لأنه حين يُمنع من الحديث عن القضايا الكبرى، يُمنع من أن يكون مواطنًا حقيقيًا.
إن معركة الحريات في الجامعة ليست شأنا طلابيا صرفا، بل هي معركة وجودية تمسّنا جميعًا. معركة من أجل مغرب أكثر عدلاً، وأكثر وفاءً لماضيه النضالي. وإذا تهاونّا في هذه اللحظة، فإننا نُسهم، بوعي أو بغير وعي، في تسليم الأجيال القادمة لثقافة الخنوع، وفي إطفاء آخر شمعة تنير درب الوعي الجماعي.
وفي لحظة اشتداد الظلمة في وجه الكلمة الحرة يبرز المثل القائل: “من لا يستطيع أن يتحمل رأيي، لا يستحق أن يسمعني” وقال كانط: “الاستنارة هي خروج الإنسان من القصور الذي اقترفه في حق نفسه.” هذه ليست مجرد مقولات عابرة، بل دعوات دائمة للوعي، للعقل، ولرفض الطاعة العمياء. فكل مجتمع لا يدافع عن حرياته، يكتب مقدما شهادة فقدان صوته.
وختاما، كما قال أبو القاسم الشابي: “إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر”، فإن هذه الكلمات، وإن كانت شعراً، تظل تحذيراً عميقاً لا تهديداً، من أن الشعوب التي تكفّ عن الحلم والرفض والنضال، تفقد تدريجياً قدرتها على الحياة. وقد آن الأوان لأن نُدرك أن المعركة من أجل حرية الطالب، هي معركة من أجل كرامة الوطن
*صلاح الدين ايشن