story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الصحافي واليوتوبر

ص ص

النقاش الدائر هذه الأيام داخل اللجنة المؤقتة للمجلس الوطني للصحافة، وعلى هامشه في الفضاء العمومي، بعد تسريبات حميد المهداوي لاجتماع لجنة الأخلاقيات، فرصة نادرة لنطرح السؤال الحقيقي: هل مشكلنا مع يوتيوب، أم مع طبيعة الصحافة التي تُنتَج فوق هذه المنصة؟ وهل نريد فعلا تنظيم المهنة، أم إسكات الأصوات المزعجة؟

أول مفارقة يجب وضعها على الطاولة واضحة وبلا مجاملة: المؤسسات الإعلامية التي يُمنَح صحافيوها بطاقة الصحافة المهنيّة تعيش بدورها، جزئيا أو كليا، على مداخيل نفس المنصات التي يُدان بها المهداوي اليوم.

وأغلب الجرائد والمواقع، في المغرب والعالم، تملك قنوات يوتيوب مفعَّلة، وتستفيد من إعلانات غوغل، وتدمج هذه المداخيل في نموذجها الاقتصادي بكل طمأنينة. لكن عندما يكون الصحافي متفرّدا، ويعيش مباشرة من قناته على يوتيوب، تتحوّل المنصة فجأة إلى “شبهة” تسقط عنه صفة الصحافي المهني.

القانون المنظم للمهنة ومرسوم بطاقة الصحافة وُضعا في لحظة كان فيها النموذج الغالب واضحا: صحافي أجير في مؤسسة، وعقد عمل، وأجر مصرح به، وانخراط في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي…

تعريف “المهني” في هذه النصوص محكوم بصورة الأجير داخل مؤسسة كلاسيكية. بينما نحن اليوم في سياق آخر. المنصات الرقمية، وعلى رأسها يوتيوب، تحوّلت إلى بنية تحتية إلزامية لأي فاعل إعلامي، فردا كان أو مؤسسة.

والإصرار على قراءة نصوص الأمس بعين تتجاهل هذا التحوّل، يخلق مفارقة لا تقل عبثا: نحتفظ بتعريف قديم للصحافي، ثم نستخدمه لاستبعاد من يمارس الصحافة فعلا، فقط لأن تحصيل الدخل لم يعد يمر فقط عبر “مقاولة إعلامية”، بل عبر منصة رقمية.

من الناحية الاقتصادية البسيطة، مداخيل يوتيوب ليست إلا شكلا جديدا من أشكال الإعلانات. في الماضي كانت الجريدة تتعامل مع وكالة إشهار، وسيط يجمع المعلنين، ويبيع المساحات، ويأخذ عمولته، ويحوّل الباقي للمؤسسة. بينما اليوم تلعب المنصة الدور نفسه: تجمع المعلنين، وتضع الإعلانات ضمن الفيديوهات، وتحول نصيب الصحيفة أو الصحافي.

ما دام الأصل هو عائدات الإشهار، وما دام المحتوى صحافة بالمعنى المهني للكلمة، فلا شيء في هذا النموذج يبرر، لوحده، نزع الصفة المهنية عن صاحبه. ولا يوجد في مواثيق الأخلاقيات ما يقول إن الوسيط يجب أن يكون مطبعة، أو شركة توزيع، أو وكالة إشهار، ولا يجوز أن يكون منصة رقمية اسمها يوتيوب.

في المقابل، هناك مفارقة أخرى لا يجوز إنكارها: التطبيع مع الاعتماد الكلي على يوتيوب خطر مهني حقيقي. عندما يكون يوتيوب هو الشريان المالي شبه الوحيد، يصبح الصحافي، فردا كان أو مؤسسة، تحت رحمة خوارزمية لا ترحم. وأي تغيير في قواعد الترتيب، أو تعديل في سياسة الإعلانات، وكل “ضربة” غامضة للقناة، يمكن أن يتحول في يوم واحد إلى أزمة مداخيل، ورواتب، واستمرارية.

الأخطر من ذلك أن معيار النجاح يتغيّر. وبدل أن يكون السؤال “هل المادة دقيقة ومتوازنة ومهمة؟” يصبح السؤال العملي: “هل تجلب مشاهدة أطول ونقرات أكثر؟”. هنا تبدأ الصحافة في الانزلاق نحو منطق المنصة، بعناوين صادمة، وفيديوهات مشحونة بالعاطفة، وخلط بين الرأي والخبر… لأن هذا ما تكافئه الخوارزميات.

بهذه الطريقة نكون أمام تطرف ثان لا يقل خطورة عن الأول. التطرف الأول هو نزع الصفة المهنية تلقائيا عن كل من يشتغل عبر يوتيوب، وكأن المنصة في حد ذاتها جريمة. والتطرف الثاني هو التسليم التام لمنطق هذه المنصة، وقبول أن تتحول إلى الممول الوحيد، حتى وإن اصطدم هذا المنطق مع أبسط قواعد الشرف المهني.

في الحالة الأولى نغلق الباب في وجه جيل كامل من الصحفيين الذين اختاروا نماذج مستقلة ومشاريع خاصة، ونقول لهم بصوت واضح: إمّا أن تكون أجيرا في مقاولة قائمة، أو أنت مطرود من “القبيلة المهنية”. وفي الحالة الثانية نُشرعن، من حيث لا نشعر، تفكيك غرفة الأخبار إلى علامات شخصية متنافسة، ونقبل بتآكل الحدود بين الصحافي و”اليوتيوبر” التجاري.

ما يزيد المفارقة حدة أن قاعدة من هذا الوزن، مثل اعتبار الاعتماد على يوتيوب سببا لإسقاط صفة الصحافي المهني، لا تُناقَش في برلمان منتخب ولا في إطار مهني له تمثيلية، بل تصاغ في مداولات لجنة داخل لجنة مؤقتة معيّنة، تفتقد أصلا إلى الحد الأدنى من التمثيلية. ثم تُفَعَّل هذه القاعدة في حالة واحدة تقريبا، هي حالة صحافي مزعج للبعض، فيتحول ما يُقدَّم كاجتهاد تنظيمي إلى أداة انتقاء سياسي في يد “إدارة” عمومية تابعة للحكومة.

هكذا نصنع مفارقة ثالثة: نرفع شعار حماية المهنة من الدخلاء، وننتهي بإخراج أحد الوجوه المعروفة في الصحافة المغربية من تحت مظلة المهنة.

الخروج من هذا المأزق لا يكون باختيار أحد التطرفين ضد الآخر، بل برسم خط وسط واضح. أي الاعتراف بكون الاعتماد على عائدات يوتيوب لا ينزع عن المنتج صفة الصحافي ما دام يمارس العمل الصحافي بمعناه المتعارف عليه؛ لكن الاعتماد الحصري على هذه العائدات لا يمكن اعتباره نموذجا سليما ولا مستداما، لا ماليا ولا مهنيا.

المطلوب أن نعترف بيُوتيوب كوسيط إعلاني مشروع، لا كوصمة، وأن نطالب في الوقت نفسه بتنويع مصادر التمويل من خلال إعلانات مباشرة، ودعم عمومي شفاف، واشتراكات، ومنتجات وخدمات موازية… حتى لا تتحول المنصة إلى قيد خانق يجرّ المضمون وراءه.

في ملف حميد المهداوي، كان يمكن للمجلس المؤقت وللقضاء الإداري أن يلتقطا فرصة النقاش ويقولا بوضوح إن النصوص الحالية لم تعد كافية، وإن المهنة تحتاج إلى تعريف أوسع وأذكى للصحافي المهني يدمج الصحافة المستقلة والرقمية، بدل أن يحشرها في قالب الأجير الكلاسيكي.

كان يمكن أن تكون هذه القضية لحظة لتحديث التعريف، لا لتضييقه. والاعتراف بمشروعية العيش من عائدات يوتيوب حين يكون المحتوى صحافة حقيقية، ليس دفاعا عن شخص، بل عن حق المهنة في أن تواكب زمنها.

كما أن التنبيه إلى مخاطر الارتهان الكلي لهذه المنصة ليس اتهاما لمن يشتغل وفقها، بل دعوة إلى بناء نماذج أكثر استقلالا وصلابة.

نحتاج اليوم إلى أكثر من اجتهادات معزولة تُسقِط بطاقات هنا وتمنح أخرى هناك، بل نحتاج إلى قرار جماعي هادئ يعترف بأن الصحافة لم تعد حبيسة جدران المؤسسات الكلاسيكية، وبأن المنصات، مهما كرهنا أو أحببنا، صارت جزءا من هواء المهنة.

إذا أردنا فعلا حماية الصحافة، فعلينا أن نوسّع بيتها بدل أن نضيّقه، وأن نضع قواعد شفافة تُلزم كل من يشتغل داخل يوتيوب أو خارجه باحترام الأخلاقيات نفسها، بدل استعمال المنصة ذريعة لإسكات هذا الصوت أو ذاك.

إما أن نختار مهنة قادرة على استيعاب زمنها الرقمي بشجاعة ومسؤولية، أو نستمر في إنتاج قرارات صغيرة توزَّع باسم القانون، بينما الخاسر الحقيقي هو ما تبقّى من ثقة في الصحافة نفسها.