story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الشيطان والملاك

ص ص

في قضايا النشر التي ينظمها القانون، ننضبط بالقُوة كصحفيين الى فصولِ المنع الصريح أو الحرّية المشروطة، لكن في القضايا التي تحتكم للأخلاقيات، نمتلك حرية الاختيار وسلطة التقدير بين ان نخضع الى استبداد فضيلة الاخلاق أو أن نتمرد على طاعتها وعلى قِيمها الطوباوية.

 في القانون تضيق الاجتهادات بوجود نصوص صريحة، وفي الاخلاقيات تتعدد الخيارات وتتضارب العديد من القيم والمعايير في الميزان الذي يحدد مشروعية النشر.

في القانون، نخضع بفعل الخوف من المتابعة. وفي الاخلاقيات نخضع بالإرادة الطوعية. من هذا المنطلق تعتبر يقظةُ الحس الأخلاقي لدى الصحفي؛ المعيارَ القوي والكاشف للمهنية والمصداقية والنزاهة التحريرية، فالأخلاق هي أساس المهنية، وهي الطاعة للمبادئ التي لا يمكن فرضها بالقوة.

 يعتبر سؤال الاخلاقيات في مهنة الصحافة سؤالا صعبًا وملتبسًا وحمّالَ أوجه، وهو موضوع نقاش قديم جديد، ونقاش متجدد ومتحول، ليس فيه منتصر او مهزوم ولا شياطين او ملائكة. فالتقديرات تختلف بين الصحفيين وبين المؤسسات الاعلامية، كما قد تتعدد الخيارات الأخلاقية وتتغير عند الصحفي الواحد، بحسب السياقات السياسية والثقافية والمجتمعية والمبادئ الحقوقية المهيمنة في البلد.  

كيفما كان نوع التقنين الأدبي والأخلاقي الذي يخضع له الصحفي داخل المؤسسة الإعلامية، فإنه يجد نفسه وحيداً أمام صفحته البيضاء او شاشة حاسوبه او عدسة الكاميرا او آلة المونتاج؛ وعليه ان يتدبر الامر مع ضميره المهني، ويكون ملزما تحت ضغط السبق والأخبار المستعجلة بأن يتخذ القرار الأسلم والأسرع في نشر صورة، او اختيار عنوان مناسب، او توظيف مُفردة، او ترتيب  صور مونتاج فيديو، انه يعيش محاسبة ضمير متواصلة ومتصلة، ويواجه خيارات صعبة تتصارع أمامه فيها  قيمتان أو أكثر من القيم الأخلاقية، وتفرض عليه ان يختار الأقوى نفعاً والأكثر إقناعا والأقل ضرراً، ليس لذاته كفرد، او لخلاصه الشخصي ،  بل لذات المجتمع، ولتماسكه، وللمصلحة العامة، وللمشترك الإنساني والكوني.

في المأزق الأخلاقي، يصبح اتخاذ قرار النشر عملية مهنية صعبة ومركبة ودقيقة، يستحضر فيها الصحفيون وهيئات التحرير وإدارة النشر الكثير من المعايير التي يضعونها في ميزان الربح والخسارة، منها معيار صدقية المعلومات، ومعيار احترام كرامة الافراد ومعيار الرحمة. لكن أسمى وأثقل معيار في ميزان الأخلاقيات ورسالة مهنة الصحافة، وهو الذي يمنح الصحفي المهني راحة الضمير ومشروعية النشر؛ يبقى هو معيار المصلحة العامة، وما تحمله من تنوير للرأي العام وكشف للفساد وحماية المجتمع.

الى هنا لا إشكال في تراتبية قيم الاخلاقيات، ولا اختلاف، المصلحة العامة تسمو نظريًا وفعليًا فوق كل الاعتبارات والقيم، إلا أنه في التفاصيل قد يسكن الشيطان بجوار الملاك، فمعيار المصلحة العامة لا يستقيم رمزيا واخلاقيا إلا بوجود معيار آخر، أحيانا يكون غير مرئي ويصعب كشفه، وأحيانا نراه ونغض الطرف، وهو معيار مدى نُبل الدّافع الصحفي. فحين تتقاطع او تختلط المصلحةُ العامة مع مصلحة شخصية لدى الصحفي أو النّاشر: كوجود نزاع قضائي أو خصومة سياسية أو ثأر شخصي او دافع نفسي انتقامي، نكون أمام تضارب مصالح يُشوّش على مصداقية ونبل فِعل النشر، ولو كانت القضية الشخصية للصحفي عادلة وإنسانية، ولو كانت المصلحة العامة نبيلة.

والحل الأمثل في هذه الحالة، والذي تلجأ اليه المؤسسات الصحفية المهنية في العالم، هو الفصل بين المادة الصحفية ودوافع مصدرها، وتكليف فريق صحفي محايد ومستقل بالتحقق والاشتغال على الموضوع حفاظا على النزاهة التحريرية. وبهذا السلوك المهني البسيط، يزول اللُّبس، ونطرد الشيطان، ويصبح لمعيار المصلحة العامة قيمة أخلاقية ناصعة النقاء.

بين الملاك والشيطان في ضمير الصحفي خيط رفيع وغير مرئي، وبين الخير والشر في فِعل النشر الاعلامي هناك دائما حلقة مفقودة. حين تهدأ العاصفة ويطير الغبار الحاجب للرؤية، ونضع السيوف، ونأخذ نفسا ومسافة من المعركة ومن نشوة الانتصار اللحظي؛ سنكتشف بعد فوات الأوان بأننا جميعا منهزمون، وبأن الخاسر الأكبر هو الرقي بالمهنة، وبأننا لم نكن إلّا ” كومبارس” في تمثيلية تحت عنوان “المصلحة العامة” من إخراج مُسرِّب مجهول مكلف بمهمة.

للحديث بقية…