story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الدين لله والوطن للجميع.. والخدمات لمن يدفع!

ص ص

لا يختلف وضع قطاعَي التعليم والصحة في المغرب من حيث عمق الأزمة وطبيعتها البنيوية، تختلف الإشكاليات و البرامج و اشكال الازمة، لكنهما يعيشان تحت وطأة المنطق نفسه: خلل في القطاع العمومي، وجشع في القطاع الخصوصي، و هنا لا تحمل كلماتي هذه نفسا اكاديميا تحكمه الأرقام و التقارير و المؤشرات بقدر ما هو ينطلق من خلال تجربة قد تتحدث بلسان أي مواطن بسيط.

اشتغلت في قطاع التربية و التعليم سابقا، و طبعا كغيري من المغاربة سجلت خلال زياراتي القليلة ما يكفي من الملاحظات ببعض المصحات الخاصة، فتكوّنت لدي قناعة راسخة بأن ما يعيشه المواطن المغربي اليوم ليس مجرد ضعف في الخدمات، بل تواطؤ ضمني لتحويل الحقوق الأساسية إلى سلع، والإنسان إلى مجرد زبون.

التعليم الخصوصي، لا يختاره المواطن بمحض إرادته، بل يهرب من واقع تعليمي عمومي منهار، ويدفع من جيبه ما بالكاد يكفي لتأمين استقرار دراسي لأبنائه. لكنه لا يدفع مقابل جودة حقيقية، بقدر ما يدفع لحماية نفسه من الفوضى. الكفاءات هي نفسها، والبرامج هي نفسها، لكن منطق العمل في القطاع الخصوصي محكوم بثنائية الأجر والرقابة التي يفرضها المستثمر، لا الدولة. إنها علاقة لا تنتج دائمًا الجودة، لكنها تنتج انضباطًا نسبيًا، لأن مصدر العيش مهدَّد دائمًا.

في المصحات الخاصة، تتكرر الصورة بشكل مشابه، المواطن لا يقصدها طلبًا للامتياز، بل خوفًا من غياب الحد الأدنى من الخدمة في المستشفى العمومي. كل شيء في المصحات الخاصة خاضع للحساب: الدفع قبل العلاج، شيكات الضمان، رسوم غير واضحة التسمية، وغالبًا ما تُخفي ممارسات تذكّر بما يُعرف بين الناس بـ”النوار”، و هو الذي يتخد أسماء مزوقة العلاج التكميلي، رسوم الطبيب الخاصة، رسوم التسجيل، المواكبة ….طبعا لا تنسى المكلفة بالفوترة ان تقول لك هذه التعبيرات بالفرنسية، و الحقيقة ان اسمها الحقيقي هو السوق السوداء، بالفرنسية ” النوار ” ، والمثير في الأمر أن هذه المؤسسات، مثل نظيراتها في التعليم، تبني قوتها لا على التفوق، بل على ضعف الدولة، إنها لا تعوّض القطاع العمومي، بل تنمو على أنقاضه.

وطبعًا، ينطبق المنطق نفسه على العاملين هناك: منطق الأجر مقابل العمل، ورقابة “مول الشكارة” التي تضمن حدًّا أدنى من الأداء، حيث تعتمد هذه المصحات والمدارس الخاصة هيكلة إدارية تجعل بقاء العاملين مرتبطًا بأدائهم المباشر، مع تعزيز الرقابة، وهو ما يغيب في القطاع العمومي حيث كل اشكال التسيب، و الأمر طبعا رأسمالي تجاري و ليس أخلاقي.

ما يثير القلق حقًا اكثر مما ذكر أعلاه، هو توسّع قاعدة المواطنين الذين يلجؤون إلى القطاع الخاص في التعليم والصحة. لم يعد الأمر مقتصرًا على الميسورين، بل شمل الفئات المتوسطة، بل وحتى الفقيرة. وهكذا انتقلنا من تصور: “الخاص للأغنياء، والعمومي للفقراء” إلى واقع جديد: الجميع يبحث عن مخرج في القطاع الخاص، كلٌّ حسب استطاعته، تمامًا كما هو الحال في سوق الفنادق. في المقابل، بقي القطاع العمومي مجرد ملاذٍ للمعدمين، الفاقدين لأي قدرة على المناورة. إنه أحد وجوه الفقر العميق، لا مجرد خدمة عمومية.

و السؤال لم يعد فقط: لماذا لا تعمل قطاعاتنا الحيوية كما يجب؟ بل أيضًا: من يحمي المواطن من منطق السوق الذي تغوّل في ظل غياب الدولة؟ في الصحة كما في التعليم!

الجواب : لا يوجد جهاز رقابي فعّال: لا على الأسعار، ولا على جودة الخدمات، ولا حتى على الحد الأدنى من الأخلاقيات المهنية، وتستمر المؤسسات الخاصة في مراكمة الأرباح دون أن تُلزم بتحقيق شروط واضحة للجودة أو احترام حقوق المرتفقين. إنها تشتغل في فضاء هش قانونيًا، مرن رقابيًا، ومفتوح على كل أشكال الابتزاز المقنّن.

الأدهى من ذلك أن هذا الوضع يتم في ظل نظام ضريبي ثقيل، يُحمّل المواطن التزامات مالية مستمرة تجاه الدولة، دون أن يحصل في المقابل على الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية الأساسية، وهو ما يُحدث شرخًا عميقًا في العلاقة بين المواطن والدولة، ويفقده الثقة في المؤسسات، ويُفرغ الانتماء الوطني من مضمونه الحقيقي.

إن إصلاح قطاعَي التعليم والصحة ليس ترفًا، ولا مشروعًا تقنيًا محدود الأثر، بل هو اختبار سياسي وأخلاقي للدولة، في مدى جديتها في حماية مواطنيها، وقدرتها على بناء تعاقد اجتماعي جديد يضع الإنسان في قلب السياسات العمومية. فالوطنية لا تُبنى على الشعارات أو التجييش العاطفي، بل على شعور حقيقي بأن الدولة تحمي مواطنيها وتضمن لهم خدمات تحفظ كرامتهم.

وحين يُدرك المواطن أن تعليمه وصحته ليسا رهن قدرته الشرائية، بل جزء من حقه الإنساني والمواطني، حينها فقط يمكن الحديث عن وطن يراهن على مواطنيه، ومواطنين مستعدين للدفاع عنه، ليس بالكلام، بل بالفعل.