story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الخطاب الملكي أمام البرلمان: جواب الدولة على الشارع بلغة الإصلاح والاستمرارية

ص ص

الخطاب الملكي أمام البرلمان يوم 10 أكتوبر 2025 لم يكن مجرد لحظة افتتاحية للدورة التشريعية، بل كان حدثًا سياسيًا بامتياز، محاطًا بسياق اجتماعي مشحون واحتجاجات شعبية توجهت، في غير ما مرة، نحو المؤسسة الملكية ذاتها باعتبارها المرجع الأعلى والمخاطب الأخير في لحظات التوتر. وقد وجد الملك نفسه أمام مشهد انتظارات عالية السقف، بعضها مشروع ومؤسس على اختلالات واقعية في الخدمات العمومية، وبعضها الآخر يتجاوز الإطار الدستوري والعملي الممكن. من هنا، اكتسب الخطاب أهمية خاصة، ليس فقط من حيث مضامينه، بل من حيث طبيعته كـ”جواب فوقي” على أسئلة الشارع، وكاختبار لقدرة الدولة الاجتماعية على الإنصات دون أن تنزلق إلى الشعبوية أو الارتباك المؤسسي.

في هذا الإطار، يمكن القول إن الخطاب قدّم إجابتين مركزيتين، شكلتا معًا هيكل الرسالة الملكية في مواجهة هذه الموجة من الانتظارات.

– الإجابة الأولى كانت تصحيحية، إذ جاءت لتفنيد الفكرة القائلة بوجود تعارض بين المشاريع الوطنية الكبرى، كاحتضان كأس العالم، وبين الأولويات الاجتماعية الملحّة كالصحة والتعليم. الملك لم يقدّم مفاضلة بينهما، بل طرح رؤية تكاملية تعتبر أن التنمية ليست معادلة صفرية، وأن مشروع الدولة الحديثة يحتاج في الآن ذاته إلى الاستثمار في البنية التحتية والرمزية الدولية، كما يحتاج إلى الاستثمار في الإنسان وجودة الخدمات الأساسية. بهذا المعنى، لم يكن الخطاب دفاعًا عن مشروع رياضي أو ترفي، بل إعادة تأطير للنقاش الشعبي ضمن منطق الدولة الاستراتيجية التي توازن بين رهاناتها الكبرى واحتياجاتها الآنية.

– أما الإجابة الثانية، فكانت موجهة مباشرة إلى جوهر الاحتجاجات المتعلقة بالتعليم والصحة. هنا اختار الملك منطق الاستمرارية في الإصلاح بدل القطيعة، مؤكدًا أن هذه الملفات لا تُحلّ بخطابات ظرفية أو حلول سحرية، بل عبر تسريع وتيرة البرامج الجارية وضمان فعاليتها. فالدعوة إلى الاستمرار لا تعني الجمود، بل تعني التحصين ضد التسرّع والارتباك، كما تعني الإصرار على تحويل الإصلاح من وعد سياسي إلى ورش دائم. ولعلّ هذا الاختيار يعكس وعيًا بأن عمق الأزمة ليس في غياب البرامج، بل في ضعف تفعيلها، وأن اللحظة تتطلب إرادة تنفيذ أكثر من إنتاج رؤى جديدة.

ورغم أن الخطاب بدا حذرًا في لغته، حريصًا على احترام منطق المؤسسات واختصاصاتها، إلا أنه تفاعل مع نبض الشارع ضمن حدود ما هو ممكن دستوريًا وعمليًا.، محاولًا تهدئة الانتظارات دون السقوط في الوعود المطلقة. غير أن هذا التوازن الدقيق بين التجاوب والواقعية يطرح سؤالًا مركزيًا حول مدى قدرة الفاعلين التنفيذيين والمؤسسات الوسيطة على ترجمة التوجيهات الملكية إلى سياسات ملموسة. فالتجارب السابقة تُظهر أن الخطاب الملكي، مهما بلغ من عمق في التحليل أو دقة في التشخيص، يظل في حاجة إلى جسور مؤسساتية تُحوّله إلى أثر اجتماعي قابل للقياس، وإلى تواصل يومي يُعيد الثقة إلى المواطنين الذين فقدوا الإحساس بجدوى الإصلاح.

إن القيمة المضافة في هذا الخطاب لا تكمن في ما قاله الملك فحسب، بل في الطريقة التي أعاد بها ترتيب النقاش العمومي . فالملك لم يقدّم نفسه كمنقذ أو كصاحب الحل النهائي، بل كمؤطر لمسار الإصلاح وموجّه لإيقاعه. وفي ذلك استمرارية واضحة لروح خطاب العرش السابق، . ومع ذلك، تبقى فعالية هذا الخطاب رهينة بقدرة الحكومة والمؤسسات المنتخبة على تملك مضامينه وتحويلها إلى التزامات عملية، لأن الشارع الذي خرج محتجًا لم يعد يكتفي بالرموز، بل يطالب بالمحسوس والمرئي والملموس في حياته اليومية.

من هذا المنطلق، يمكن القول إن خطاب الملك كان لحظة توازن دقيقة بين الإصغاء والمأسسة، بين تهدئة الشارع وحماية منطق الدولة، وبين الوعي بعمق الأزمة والالتزام بخيار الإصلاح الهادئ والمستمر. هو خطاب لم يَعِد بما لا يمكن الوفاء به، لكنه في المقابل أعاد تعريف الممكن نفسه، حين ربطه بالإرادة التنفيذية والتواصل الاجتماعي و السياسي مع المواطنين . بذلك، يكون الخطاب قد أرسى معادلة جديدة في علاقة الدولة بالمجتمع: إصلاح مستمر، مؤسسات فاعلة، وانتظارات يجب أن تُدار بالوضوح لا بالوعود، في أفق دولة اجتماعية تُنصت وتستجيب دون أن تفقد بوصلتها الاستراتيجية.