الحكم الذاتي من الرهان السياسي إلى التأسيس الدستوري
يشكل موضوع الحكم الذاتي في السياق المغربي أحد أكثر القضايا حساسية وتشعبا في النقاش الدستوري والسياسي الراهن، ليس فقط لارتباطه الوثيق بقضية الوحدة الترابية وإنما أيضا لكونه يقدم أرضة صلبة للنموذج السياسي الذي يمكن للمملكة أن ترسخه في أفق بناء دولة اللامركزية المتقدمة. فرغم أن مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب سنة 2007 كان مجرد مبادرة سياسية لحل نزاع إقليمي، فيمكنه أن يشكل في جوهره تصور دستوري متكامل يهدف إلى إعادة توزيع السلط داخل الدولة مع الحفاظ على وحدة السيادة الوطنية. ومن ثم، فإن سؤال “كيف يمكن دسترة الحكم الذاتي في الدستور المغربي؟” ليس سؤالا تقنيا فحسب، بل هو في العمق سؤال حول طبيعة الدولة نفسها، وحول حدود المرونة التي يمكن أن يبلغها النظام الدستوري المغربي في التوفيق بين اللامركزية والسيادة.
ينطلق النقاش من التحديد المفاهيمي لمفهوم الحكم الذاتي. فالأمر يتعلق بصيغة متقدمة من اللامركزية السياسية، تمنح جهة معينة من التراب الوطني سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية محددة، في إطار وحدة الدولة وسيادتها. ويختلف الحكم الذاتي عن “الجهوية الموسعة” من حيث مستوى الاستقلالية، إذ يتأسس على مبدأ تفويض واسع للسلطات المحلية في تدبير شؤونها، مع احتفاظ الدولة المركزية باختصاصاتها الجوهرية، خاصة في مجالات الدفاع والسياسة الخارجية والرموز السيادية. وفي هذا المعنى، يمكن النظر إلى الحكم الذاتي كآلية لتوزيع السلط داخل الدولة الموحدة وليس كمساس بوحدتها، وهو ما يجعل الدسترة الممكنة لهذا النظام في المغرب رهينة بصياغة دقيقة توازن بين المبدأين.
على مستوى المرجعية الدستورية القائمة، لا يتضمن دستور 2011 نصا صريحا يؤسس لنظام الحكم الذاتي، غير أنه يشتمل على مقتضيات مرنة تسمح بتطوير التنظيم الترابي في اتجاهه. فالفصل الأول ينص على أن “التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة”، وهي صيغة تجمع بين مبدئي الوحدة واللامركزية في آنٍ واحد، بما يتيح نظريا إمكانية إدماج أنماط متقدمة من الحكم الذاتي داخل البنية الدستورية للدولة الموحدة.
أما الباب التاسع من الدستور المخصص لـ “الجهات والجماعات الترابية الأخرى”، الذي يمتد من الفصل 135 إلى الفصل 146، فيرسم معالم التنظيم الجهوي والترابي، ويؤسس لمنطق جديد في تدبير الشأن العام المحلي. فهو ينص على أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تعتبر جماعاتٍ قانونيةٍ خاضعة للتسيير الديمقراطي لشؤونها، وفق مبادئ التدبير الحر والتضامن والتعاون والتوازن بين الموارد والاختصاصات. كما يؤكد على ضرورة إرساء آليات مؤسساتية تمكن المواطنين من المشاركة في صياغة السياسات الترابية وتقييمها، وعلى أن الجماعات الترابية تتمتع بموارد مالية ذاتية وبموارد تخصصها الدولة لتقوية قدراتها التدبيرية والتنموية. وهي مقتضيات تشكل مجتمعة قاعدة دستورية مرنة يمكن البناء عليها لتوسيع صلاحيات الجهات، لا سيما في المناطق ذات الخصوصيات التاريخية والثقافية، كالأقاليم الجنوبية. فمفهوم الجهوية المتقدمة الوارد في الدستور، إذا ما فعل في أقصى مداه، يمكن أن يفتح الباب أمام نمط من الحكم الذاتي المؤسسي المنضبط لمبدأ وحدة الدولة، والمندمج في منطق السيادة الوطنية، دون حاجة إلى إحداث قطيعة مع النظام الدستوري القائم، بل عبر تطويره في اتجاه لامركزية سياسية متقدمة تستجيب للتحديات الوطنية والإقليمية الراهنة. من هنا يمكن القول إن الدستور المغربي، رغم عدم تبنيه الصريح للحكم الذاتي، يتضمن في بنيته إمكانيات تأويلية تسمح بدسترة هذا النموذج دون الحاجة إلى تقويض مرتكزاته الأساسية.
انطلاقا من هذه الأرضية، يمكن تصور ثلاث صيغ رئيسية لدسترة الحكم الذاتي في النظام الدستوري المغربي، تختلف من حيث العمق والآليات. الصيغة الأولى تتمثل في الإدماج المباشر للحكم الذاتي داخل الدستور من خلال تعديل جزئي يضيف بابا جديدا بعنوان “النظام الذاتي للأقاليم الجنوبية” أو “نظام الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية” أو “جهة الحكم الذاتي للصحراء” كما سماها المقترح المغربي لسنة 2007. يتضمن هذا الباب الاعتراف القانوني بوضع خاص لتلك الأقاليم، مع تحديد مؤسساتها وصلاحياتها التشريعية والتنفيذية والقضائية. كما يمكن أن ينص على وجود برلمان محلي منتخب ديمقراطيا، وحكومة محلية تمارس السلطة التنفيذية في المجالات ذات الاختصاص محلية، على أن تبقى مجالات الدفاع والسياسة الخارجية والعملة والشؤون الدينية اختصاصا حصريا للدولة المركزية. هذه الصيغة، التي يبدو أنها أقرب إلى تمثل ما سيحصل بالنظر لكون الحكم الذاتي أضحى الآن قرارا أمميا، تضمن وضوحا دستوريا وتؤسس لنظام مؤسسي متين، لكنها تتطلب تعديلا دستوريا رسميا وتوافقا سياسيا واسعا على مستوى المؤسسة الملكية والأحزاب السياسية.
الصيغة الثانية تقوم على إدماج الحكم الذاتي عبر نظام أساسي خاص (Statut d’Autonomie)، كما هو الحال في التجربة الإسبانية، التي يخصص فيها الدستور بابا كاملا لـ “التنظيم الإقليمي للدولة”، وضمنه يفرد فصلا كاملا لما يسميه “مجتمعات الحكم الذاتي” التي تعد أنظمتها الأساسية من طرف جمعية تشريعية، وتعتبر القاعدة القانونية الأساسية لكل مجتمع من مجتمعات الحكم الذاتي وتعترف به الدولة وتحميه بصفته جزء مكونا لنظامها القانوني (الفصل 147). إذ يمكن للدستور المغربي أن ينص بصيغة عامة على إمكانية إنشاء “أنظمة ترابية ذاتية الحكم بمقتضى قانون تنظيمي”، ثم يصدر قانون تنظيمي خاص بالأقاليم الجنوبية يحدد صلاحياتها وهيئاتها ومجالات تدخلها. وتمتاز هذه الصيغة بالمرونة، لأنها تسمح بتطبيق الحكم الذاتي في إطار دستوري قائم دون تعديل جذري، كما تمنح إمكانية مراجعة وتطوير النظام لاحقا عبر القوانين التنظيمية دون الحاجة إلى المساس بالنص الدستوري نفسه.
في المقابل، يمكن تصور صيغة ثالثة أكثر تدرجا تقوم على تطوير مبدأ الجهوية المتقدمة المنصوص عليه في الدستور نحو جهوية متميزة أو موسعة. فبدلا من الحديث عن “نظام حكم ذاتي” بالمعنى الصريح، يمكن الإبقاء على مفهوم “الجهة ذات الوضع الخاص”، كما هو معمول به في بعض الدول ذات البنية الموحدة، مثل فرنسا وإيطاليا، مع التنصيص على أن بعض الجهات قد تمنح صلاحيات تشريعية وتنفيذية موسعة تبعا لخصوصياتها التاريخية والثقافية، أي ما يعرف باللامركزية المتدرجة (La décentralisation progressive ou graduelle). هذا المسار يحافظ على انسجام النص الدستوري ويؤسس تدريجيا لثقافة سياسية جديدة في التعامل مع اللامركزية.
غير أن دسترة الحكم الذاتي، أيا كانت الصيغة المعتمدة، تثير عددا من التحديات القانونية والسياسية التي لا يمكن إغفالها. أول هذه التحديات يتمثل في المعادلة السيادية. فالدستور المغربي، كما سبق، يرتكز على مبدأ وحدة الدولة والتراب الوطني، وهو ما يفرض أن تكون أي صيغة للحكم الذاتي منسجمة تماما مع هذا المبدأ. فالإقرار بسلطات محلية تشريعية وتنفيذية واسعة يجب ألا يترتب عنه وجود ازدواج في مفهوم السيادة، بل يجب أن يظل في إطار تفويض سلطات من الدولة إلى الإقليم وليس العكس. ومن ثم فإن الصياغة الدقيقة للمقتضيات الدستورية ستكون أساسية لتفادي أي التباس بين مفهوم “الاستقلال الذاتي” و”الحكم الذاتي” الذي يندرج ضمن سيادة واحدة.
التحدي الثاني، يرتبط بالانسجام المؤسسي للنظام القانوني المغربي. فالحكم الذاتي يعني بالضرورة وجود نظام تشريعي وقضائي محلي، مما يستدعي تكييف البنية العامة للدولة حتى لا تتولد ازدواجية أو تضارب في الاختصاصات بين المؤسسات المركزية والمحلية. ويبرز هذا الإشكال بوضوح في مجال القضاء، الذي أدرجه مقترح الحكم الذاتي لسنة 2007 ضمن الاختصاصات الحصرية التي يجب أن تحتفظ بها الدولة، حيث يجب تحديد العلاقة بين المحاكم المحلية والمحكمة الدستورية والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذلك في المجال المالي حيث تتقاطع الاختصاصات بين الميزانية المحلية والميزانية العامة للدولة. ومن دون معالجة دقيقة لهذه الجوانب، قد يتحول الحكم الذاتي من آلية للاستقرار والاندماج إلى مصدر للتوتر الإداري والقانوني.
التحدي الثالث، يكمن في التوازن بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، خاصة في المجالات التي تمس الأمن الداخلي والثروات الطبيعية. فهذه القطاعات ذات طبيعة استراتيجية وتتطلب رقابة الدولة، لكن في الوقت نفسه يجب منح المؤسسات المحلية صلاحيات فعلية في تدبيرها حتى يكون الحكم الذاتي ذا مصداقية. ولتحقيق هذا التوازن، يمكن التفكير في إنشاء آلية مشتركة بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية لتفادي تضارب الصلاحيات وضمان التنسيق الدائم.
أما التحدي الرابع، والأخير، فهو ذو طبيعة سياسية ومجتمعية. فنجاح دسترة الحكم الذاتي رهين بقبول وطني واسع، لا يقتصر على النخب السياسية في المركز، بل يشمل أيضا الفاعلين المحليين والمجتمع المدني في الأقاليم المعنية. فالحكم الذاتي لا يمكن أن يفرض من أعلى، بل يحتاج إلى ثقافة سياسية تؤمن بتقاسم السلطة والمسؤولية. كما أن الرهان لا يتوقف على البعد الداخلي، لأن المغرب يسعى من خلال هذا النموذج إلى تقديم حل نهائي لقضية الصحراء في إطار الشرعية الدولية، وهو ما يجعل صياغة النظام الدستوري للحكم الذاتي مرتبطة أيضا بالتزامات المملكة تجاه الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وطبيعة المفاوضات التي ستتم مع الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى.
من هذا المنطلق، يمكن القول إن دسترة الحكم الذاتي ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتحديث البنية الدستورية المغربية وتوطيد اللامركزية السياسية. فإدماج هذا النظام في الدستور سيسمح بتطوير مفهوم الدولة الموحدة من منطق التركيز المفرط إلى منطق المشاركة في السلطة، بما يعزز الديمقراطية المحلية ويكرس مبدأ القرب في تدبير الشأن العام. كما أنه سيمنح التجربة المغربية بعدا دستوريا مقارنا، إذ قد يضعها إلى جانب تجارب رائدة، مثل إسبانيا التي اعتمدت نموذج “دولة المناطق الذاتية الحكم”، وإيطاليا التي منحت بعض مناطقها وضعا خاصا (المناطق المستقلة) لكن في إطار قاعدة “الجمهورية كوحدة لا تتجزأ” (المادة 5 من الدستور)، وفرنسا التي طبقت نموذج المناطق ذات الوضع المتميز على ما يسميه الدستور “المجتمعات المحلية الواقعة في ما وراء البحار وفي كاليدونيا الجديدة (المادة 74).
وحتى يتحقق هذا الطموح، يمكن تصور مسار تدريجي على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى تتمثل في إجراء تعديل دستوري محدود يضيف بابا خاصا بالأنظمة الترابية ذات الوضع الخاص، يقر إمكانية إنشاء مناطق ذاتية الحكم في إطار الوحدة الوطنية. المرحلة الثانية إصدار قانون تنظيمي مفصل يحدد مؤسسات وصلاحيات الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية، مع تحديد آليات التنسيق مع الحكومة المركزية. أما المرحلة الثالثة فتكمن في إحداث هيئة دستورية جديدة تكون مهمتها السهر على احترام وحدة الدولة وضمان حسن تطبيق مقتضيات الحكم الذاتي، بما يشكل صمام أمان دستوري ضد أي انحراف محتمل.
إن دسترة الحكم الذاتي وفق هذا التصور ستشكل خطوة نوعية في مسار تطور الدستور المغربي، لأنها ستجمع بين مطلب توسيع الديمقراطية الترابية وبين حماية الوحدة والسيادة. وهي بذلك تمثل حلا دستوريا وسياسيا متوازنا لقضية الصحراء، وفي الوقت نفسه أداة لتطوير نظام الحكم نحو مزيد من التشاركية والمرونة. فبدلا من أن يكون الحكم الذاتي حلا استثنائيا مرتبطا بملف محدد، يمكن أن يتحول إلى نموذج وطني يحتذى به لتدبير التعدد الجهوي والثقافي للمملكة، في انسجام تام مع المبادئ الدستورية الحديثة التي تقوم على وحدة الدولة وتنوع مكوناتها.
على هذا الأساس، تبدو دسترة الحكم الذاتي خطوة معقدة تتجاوز مجرد التعديل التقني للنص الدستوري، لتطرح سؤالا أعمق حول طبيعة الدولة المغربية واتجاه تطورها. فإدراج هذا الخيار في صلب الدستور يعني إعادة تعريف العلاقة بين المركز والجهات على أساس جديد من تقاسم السلطة والمسؤولية، مع ما يستتبع ذلك من تحديات في ضبط التوازن بين الوحدة والسيادة من جهة، والاعتراف بالتعدد والخصوصيات المحلية من جهة أخرى.
لذلك، فإن المضي في هذا المسار لا يمكن أن يتم إلا عبر نقاش وطني هادئ يشارك فيه مختلف الفاعلين السياسيين والدستوريين، لضمان أن يكون الحكم الذاتي آلية لتعميق الديمقراطية والاندماج الوطني، لا مجرد تكييف ظرفي مع سياقات إقليمية أو دولية. فالمسألة في جوهرها ليست تقنية أو قانونية فحسب، بل هي أيضا سياسية وتاريخية، ترتبط برهانات بناء دولة عادلة ومتماسكة قادرة على استيعاب تنوعها الداخلي ضمن مشروع وطني مشترك، لا يتأثر بتمتع بعض مناطقه بنظام الحكم الذاتي في تدبير شؤونها. ذلك النظام الذي قد لا يصل إلى درجة “نظام اللندر” الذي تحدث عنه الملك الحسن الثاني في الثمانينيات من القرن الماضي لكنه بالمقابل لا ينحصر في حدود التنظيم الجهوي الحالي حتى وإن اتسم بوصف “المتقدم” أو “الموسع”.