الحريّة لأبطال السلمية
يبدو أننا سنتحدّث كثيرا (بلا هوانا) عن الكرة كلّما اقترب موعد استحقاقاتها الوطنية والقارية والدولية. لكن المشكلة اليوم في تحديد المنطلقات والاختيارات حتى نحوّل فرحة التتويج إلى بداية صحيحة لا مجرّد لحظة فرح عابر. وما يجري اليوم غير بعيد عن قرارات الدولة ومجلسها الوزاري، من اختيارات جريئة ووعود مغرية، يتعرّض لنسف ممنهج للثقة في الدولة ومؤسساتها وقراراتها.
تحدّثت عن ذلك في مقال أمس وأعود إليه اليوم لأن من غير الممكن أن تكون الدولة نفسها التي تقدّم العروض السياسية والأجوبة الاقتصادية والاجتماعية، تتفرّج على آلاف الشبان الذين اعتقلوا بسبب التظاهر، وليس بسبب أعمال العنف والشغب والتخريب، يقبعون خلف القضبان أو في أحسن الحالات (المتابعون في حالة سراح) يتركون فصول دراستهم وتكوينهم ليحضروا جلسات محاكمتهم وإدانتهم.
ولا يمكن أن تكون الدولة التي صحّحت الخطأ، وغيّرت سلوكها تجاه تظاهرات هؤلاء الشباب٫ وباتت تحترم دعواتهم للتظاهر السلمي، وتحضر بقواتها العمومية إلى جانبهم وتنصت بكل احترام لشعاراتهم، هي نفسها التي تتواطأ بالصمت والتزكية الضمنية، لحملات الذباب الإلكتروني الهوجاء، التي تمعن في التشويه والتحريض ودسّ الشكوك والبحث عن الوقيعة بين هؤلاء الشباب ومحيطهم الاجتماعي.
لنعد إلى منطق الكرة الذي يمنحنا فرصة سانحة لتعديل المسار. ولنبدأ بما لا خلاف فيه: لقب سانتياغو لم يأت من فراغ. بل هو ثمرة سنوات من إعادة ترتيب “سلسلة النجاح” كاملة، من الكشف المبكر عن المواهب، إلى التكوين العلمي، وقياس القرار بالبيانات لا بالحدس…
تلك هي قيمة ما أنجزه مدربو الفئات السنية ومصممو البرامج الطبية والبدنية، ومن ورائهم إدارةٌ حسمت أن الكفاءة سياسة، لا مجهودا فرديا يتيما.
لكن الفوز الحقيقي يبدأ عندما تتحول النتيجة الرياضية إلى معيار معتمد خارج الملعب. وما نجح في الأكاديميات الكروية يمكن أن ينجح في المدرسة العمومية. وسرعة إنجاز ملعب حديث ليست أفضلية وراثية للخرسانة على حساب الأقسام وغرف الإنعاش، بل طريقة عمل يمكن تعميمها إذا توحّدت القواعد وتحدّدت المسؤوليات.
ما يجرى هذه الأيام من جلسات محاكمة لمئات الشبان في قاعات المحاكم، يُلزمنا بأكثر من هزّ الرأس حسرة أو تحويل زفيرنا إلى تنهيدة حزينة. لا أحد يناقش استقلال القضاء، لكن السياسة الجنائية ليست قدرا أبديا؛ بل اختيارٌ جماعي يحدّد معنى التناسب، ويضبط علاقة النصّ بروح الدستور.
حين يُعامَل تعبيرٌ سلمي بأدوات صيغت قبل الزمن الرقمي، وحين يصبح الاعتقال الاحتياطي عقوبة تسبق الحكم، نكون قد حرّكنا المؤشر في الاتجاه الخاطئ. والرسالة التي تصل إلى الجيل الصاعد، في هذه الحالة، ليست رسالة ثقة، بل رسالة ارتياب. والبلد الذي يراهن على الاستثمار والانفتاح لا يملك ترف إرسال إشارتين متناقضتين في الوقت نفسه.
لا نحتاج إلى خطابات تبريرية. نحتاج إلى جملة تنفيذية واضحة: توحيد الإيقاع. معنى ذلك بسيطٌ ومباشر. إذا قال القصر إن الاستثمار في الشباب أولوية، وكنا جميعا متّفقين على ذلك، فعلى الحكومة أن تقول الشيءَ نفسه في الميزانية والصفقات وخطط الإرث، وعلى السياسة الجنائية أن تقول الشيءَ نفسه في المتابعة والتكييف والتصدّي لكتائب التضليل والتهديد والتحريض الإلكتروني النشيطة هذه الأيام.
ولكي لا تُختزل المعركة في رمزية الكأس، دعونا نعيد ترتيب الأولويات بطريقة عملية:
التظاهرات الكبرى التي التزم المغرب بتنظيمها هي اليوم واقعٌ قائم بعقود والتزامات وتدفّقات تمويل. والطريق الأذكى ليس هدم البيت على من فيه، بل فرض معايير تجعل كل درهم قابلا للتتبّع، وكل التزام قابلا للقياس.
أعرف أن بيننا من يرى في المقاطعة لافتة صالحة لإيصال رسالة موجعة. والحقّ في ذلك مكفول. لكنّ الفعالية، في ميزان بلد يريد أن يربح اليوم والغد، تقتضي طريقا ثالثا: أن يكون الملعب رافعة مساءلة لا ستار دعاية. أن يصبح النصّ المفروض في دفاتر التحملات أهمّ من خطابات ما قبل الافتتاح. أن يتقدّم سؤال «من استفاد وكيف؟» على سؤال «كم صفّقت الجماهير؟».
وإذا كنا نتمنى انتقال منطق الفعالية من الأوراش المونديالية إلى باقي مناحي التدبير العمومي، فإن ثمّة فجوة مقلقة لا يجوز التلطيف في وصفها، وتتعلّق بالمسافة بين المنتخب الوطني لكرة القدم ومنظومة الأندية.
ما شيّدته الجامعة في المنتخبات من صرامة وانسجام لا يلامسه كثيرٌ من أنديتنا التي ما زالت تُدار بعقلية الموسم، وتعيش على حلول قصيرة النفس، وتبيع المستقبل كي تغطي الحاضر.
الإصلاح المطلوب هنا ليس تعليق لافتة «الشركات الرياضية» على الباب؛ بل أن تصبح الإدارة المهنية والشفافية المالية وحقوق البث والتسويق الحديث جزءا من العادة لا الاستثناء.
الخلاصة أن النجاح الحقيقي سيكون بتحويل ما جرى في سانتياغو إلى شهادة ميلاد لطريقة عمل جديدة، لا بطاقات تهنئة.
إذا أردنا أن نمنع اللقب من التحوّل إلى ذكرى، فلنضع له «دليل استعمال» واضح. أثر ملموس محدّد الآجال والمؤشرات، وشفافيةٌ تمكّن المواطن من رؤية الطريق من الميزانية إلى الملعب ومن الملعب إلى المستشفى والمدرسة، وسياسة جنائية تنضبط للدستور وتحرر التعبير السلمي من شبهة لم يعد لها مكان.
عندئذ فقط سنقلب القاعدة، ولن نسأل متى تنتهي الحفلة، بل متى يبدأ المشروع التالي.
هذا البلد لا ينقصه البرهان على القدرة؛ بل ينقصه أن يحترم منطقه حين ينجح. لقد أظهرت لنا كرة القدم أن التنظيم ليس ترفا، وأن الانضباط لا يخنق الخيال. فلنأخذ الدرس إلى حيث يجب: إلى الميزانيات والصفقات والمحاكم.
إن نحن عالجنا التناقض في مصدره، سنربح المدرّج والشارع معا. وإن تركناه يتناسل، سنكتشف سريعا أن الكؤوس لا تملأ فراغ الثقة، وأن التصفيق، مهما علا، لا يغطي نشاز الرسائل المتضاربة.
لدينا فرصة نادرة لنقول للجيل نفسه الجملة نفسها في كل الأمكنة: نحن نثق بكم… ونبني هذه الثقة في القانون كما بنيناها على العشب.
هذا وحده ما يحوّل الفوز إلى منهج، واللحظة إلى بداية لا خاتمة.