التصعيد باليمن.. ما الذي يدفع السعودية والإمارات إلى اللعب على المكشوف؟
بينما كان العالم يستعد لوداع عام 2025، استيقظ الشرق الأوسط على زلزال عسكري يكاد يعصف بدولة اليمن. إذ لم يكن الحدث هذه المرة بين الشرعية والحوثيين، بل يتعلق الأمر بضربة عسكرية من السعودية ضد شحنة أسلحة قادمة من شريكها الاستراتيجي، دولة الإمارات العربية المتحدة في ميناء المكلا اليمني.
هذا المشهد السريالي، الذي أعقبه طرد رسمي للقوات الإماراتية بقرار من مجلس القيادة الرئاسي باليمن، يفتح باباً لجملة من اللأسئلة: لماذا هذا التصعيد الآن؟ وما الذي دفع الرياض وأبوظبي إلى مربع “اللعب على المكشوف”؟ وهل لمضيق باب المندب والاعتراف الإسرائيلي بـ”أرض الصومال” علاقة بتوقيت هذا الانفجار؟
ما الذي جرى فعليًا؟
للمرة الأولى منذ انطلاق عمليات التحالف العسكري في اليمن عام 2015، تُقدِم السعودية على خطوة عسكرية وسياسية سمّت فيها الإمارات صراحة بوصفها طرفًا مهددًا للأمن والاستقرار، لا مجرد شريك يختلف في التقدير.
وصلت سفينتان من ميناء الفجيرة الإماراتي، صباح الثلاثاء 30 ديسمبر 2025، إلى ميناء المكلا دون تصاريح، مع تعطيل أنظمة التتبع. ليأتي الرد السعودي بضربة جوية دقيقة استهدفت الشحنة، تلاها غطاء سياسي وقانوني من رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، الذي أعلن حالة الطوارئ وطالب برحيل القوات الإماراتية خلال 24 ساعة.
ولأول مرة ينقسم مجلس القيادة الرئاسي علنًا: أربعة أعضاء، بقيادة عيدروس الزُبيدي وطارق صالح، رفضوا قرارات العليمي، بينما تؤيدها الحكومة ومكونات سياسية وازنة مثل حزب الإصلاح.
لماذا تصاعد الصراع بين الحليفين في حضرموت والمهرة؟
ما جرى في المكلا لم يكن وليد اللحظة؛ فمنذ مطلع عام 2023، كانت محافظتا حضرموت والمهرة مسرحًا لتوترات متصاعدة ناتجة عن تناقض المشاريع السياسية.
إذ انتقل المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم إماراتيًا، تدريجياً من خطاب الشراكة إلى مشروع انفصالي صريح، ساعياً للسيطرة على المحافظتين باعتبارهما العمق الاستراتيجي والنفطي لدولته المنشودة.
في المقابل، عززت السعودية حضورها عبر تشكيل قوات “درع الوطن” ودعم استقلال قرار حضرموت من خلال “حلف قبائل حضرموت”، الذي يطالب بالحكم الذاتي ضمن الدولة الواحدة.
هذا التناقض، مسنوداً بالدعم اللوجستي الإماراتي للانتقالي، خلق بيئة صدامية انتهت بسيطرة الأخير على الأرض مطلع الشهر الجاري عبر عملية “المستقبل الواعد”.
رأت الرياض في هذا التحرك تجاوزاً للتفاهمات الضمنية ومساساً مباشراً بأمنها القومي، فكانت “سفن الفجيرة” هي القشة التي قصمت ظهر البعير، محولة الخلاف من ردهات السياسة إلى فوهات المدافع.
ماذا يريد الطرفان؟
بالنسبة للرياض، السيطرة على حضرموت والمهرة تعني حماية سواحل بحر العرب الحيوية بعيدًا عن مضيق هرمز، وتأمين العمق الاستراتيجي للجنوب اليمني.
أما الإمارات، فوجودها في الموانئ اليمنية (عدن، المكلا، سقطرى، المخا) جزء من استراتيجيتها للسيطرة على خطوط الملاحة الدولية من الخليج إلى البحر الأحمر، بما يضمن نفوذًا اقتصاديًا وسياسيًا في المنطقة.
ما علاقة ما يجري بالاعتراف الإسرائيلي بـ”أرض الصومال”؟
لا يمكن قراءة أحداث جنوب اليمن بمعزل عن الزلزال الجيوسياسي الذي ضرب الضفة الأخرى من خليج عدن؛ حين اعترف الاحتلال الإسرائيلي بجمهورية “أرض الصومال” الانفصالية قبل أيام.
هذا التوقيت أثار ريبة استراتيجية عميقة لدى الرياض وعدد من العواصم الإقليمية؛ بحيث أنه بالنظر للنفوذ الإماراتي الطاغي في ميناء “بربرة”، بدا الربط بين سيطرة حلفاء أبوظبي على موانئ جنوب اليمن (عدن، المكلا، سقطرى) والوجود الإسرائيلي الناشئ في القرن الأفريقي، وكأنه “طوق بحري” يُراد فرضه على مضيق باب المندب وبحر العرب.
تخشى السعودية أن يؤدي هذا المحور الناشئ إلى تحويل الممرات المائية الحيوية إلى منطقة نفوذ خارج سيطرتها، مما يهدد مشاريعها المرتبطة بالبحر الأحمر.
وبحسب صحيفة “معاريف” العبرية، فإن إسرائيل تدرس بالفعل الاعتراف بكيان انفصالي في جنوب اليمن كبديل استراتيجي لمراقبة الملاحة وحصار الحوثيين من الشرق والغرب.
لذا، جاء تأكيد مجلس الوزراء السعودي اليوم على “وحدة أراضي الصومال وسيادة اليمن” كرسالة مباشرة ترفض محاولات التموضع الإسرائيلي الجديد عبر البوابات الانفصالية.
كما أكدت صحيفة “التايمز” البريطانية بداية الأسبوع أن لقاء جرى بين وفد من المجلس الانتقالي الجنوبي اليمني المدعوم من الإمارات ومسؤولين إسرائيليين.
ويرى مراقبون أن تموضع إسرائيل في إقليم أرض الصومال الانفصالي، يشكل لها نقطة قوة في مواجهة السعودية التي تتأثر حتما بأي اضطراب يحصل عبر أو بشأن باب المندب الممر الدولي الحيوي، خاصة في ظل رفضها التطبيع الكامل مع إسرائيل حتى اليوم.
كما أنه من الممكن لدعم إسرائيل المحتمل للمجلس الانتقالي الجنوبي في جنوب اليمن، بعد نجاح تموضعها في أرض الصومال، أن يفتح أرض اليمن لإسرائيل على مصراعيها، ومن نم تصبح على الحدود الجنوبية للسعودية عبر محافظة حضرموت، وعلى مقربة من “أنصار الله الحوثيين” في صنعاء، الذين لها ثأر معهم أثرت تحركاتهم المسلحة في إسناد غزة على مصالح الاحتلال في البحر الأحمر، بما في ذلك تعطيل الملاحة في ميناء إيلات.
ما هي مآلات الخلاف؟
قد يواجه اليمن اليوم سيناريوهين رئيسيين، إما تهدئة قسرية، من خلال تدخل وسطاء لإعادة توزيع الأدوار بين الرياض وأبوظبي، مع الحفاظ على هيكل مجلس القيادة الرئاسي هشًا كما هو، أو تفكك كامل عبر انزلاق الجنوب إلى مواجهة عسكرية مفتوحة بين قوات “درع الوطن” وحلف القبائل (مدعوم سعوديًا) وقوات المجلس الانتقالي (مدعوم إماراتيًا)، ما قد يؤدي إلى نهاية التحالف العربي الذي أنشئ سنة 2015، بطلب رسمي من الرئيس اليمني الشرعي (في ذلك الوقت) عبد ربه منصور هادي، وذلك بعد سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء وتهديدها لعدن، العاصمة المؤقتة آنذاك.
ولذلك، يعتبر ما يجري في اليمن ليس حدثًا عابرًا، بل نقطة انعطاف بعد تسمية الأطراف، ورسم الخطوط الحمراء علنًا.
وفي منطقة تُعاد فيها صياغة النفوذ من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، يبدو أن اليمن قد عاد مجددًا ليكون مرآة الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط، لا ساحته الهامشية.