التجربة الدانماركية
في حلقة الأربعاء 10 دجنبر 2025 من برنامج «مباشرة معكم»، الذي تقدّمه القناة الثانية، استدعى وزير الشباب والثقافة والتواصل، محمد مهدي بنسعيد، المثال الدانماركي في تنظيم الصحافة، ليقول إن هناك نموذج ديمقراطي، يتم فيه تعيين أعضاء مجلس الصحافة من طرف وزير العدل.
الغريب في هذا الاستشهاد بالتجربة الدانماركية، ينطوي على مصادفة غريبة: عادل إمام الذي لعب دور البطولة في فيلم “التجربة الدانماركية”، كان أيضا وزيرا للشباب والرياضة.
فبعدما أصبح ” قدري المنياوي” وزيرا مسؤولا عن هذا القطاع، ستقوم فتاة دانماركية، اسمها “أنيتا” وجسّدت دورها الممثلة نيكول سابا، بزيارة إلى مصر في إطار برنامج للتبادل الثقافي، ومن تم تنطلق الكوميديا العالقة بذاكرتنا جميعا.
أكتب هذه السطور من موقع لا أزعم فيه امتلاك الحقيقة، لكن من موقع صحافي عاش عن قرب النقاش المغربي حول التنظيم الذاتي، واستفاد شخصيا من تكوين ميداني في “التجربة الدانماركية” في مجال التنظيم الذاتي للصحافة.
زرت مجلس الصحافة في كوبنهاغن، وجلست مع ممثلي نقابة الصحافيين، وجمعيات مختلفة للناشرين، وبعض الأكاديميين المتخصصين في الإعلام والقانون، ودرست بعناية هذه الهيئة التي تُقدَّم اليوم عندنا كحجة لصالح التعيين.
بل إن سعادتي كانت مضاعفة حين اكتشفت أن إحدى عضوات المجلس آنذاك محامية من أصل مغربي، وهو تفصيل رمزي لكنه يقول الكثير عن انفتاح هذه التجربة واستعدادها لاستيعاب كفاءات من خلفيات مختلفة ضمن إطار قانوني واضح ومستقر.
فما الذي يقوله القانون الدانماركي في الواقع؟
مجلس الصحافة هناك ليس ناديا مهنيا تطوعيا، بل هيئة عمومية أُحدثت سنة 1992 بموجب قانون خاص هو «قانون المسؤولية الإعلامية». وهذا القانون لا ينظم فقط مسطرة الشكايات وحق الرد، بل يحدد بدقة تركيبة المجلس وكيفية اختيار أعضائه.
يتكوّن هذا المجلس من ثمانية أعضاء، هم الرئيس، ونائبه، وستة أعضاء آخرين. إلى هنا يمكن لأي مسؤول أن يتوقف ويقول: «وماذا في ذلك؟ نحن أيضا يمكن أن ننشئ مجلسا بثمانية أو عشرة أعضاء يعيَّنون بقرار حكومي».
لكن التفاصيل هي التي تصنع الفرق، وهي التي تجاهلها الوزير وهو يستشهد بالتجربة الدانماركية.
رئيس المجلس ونائبه في الدانمارك لا يختارهما وزير العدل من لائحة أصدقاء يتّصلون برئيس الحكومة بعدما اعتمد لائحة تضم أساتذة جامعيين مرموقين وصحافيين، ليتم استبدالهم بمقربين سرعان ما سيتحوّلون إلى موضوع لفضيحة أخلاقية.
القانون هناك يشترط أن يكون كل من الرئيس ونائبه من رجال ونساء القانون، ويُلزم وزير العدل بتعيينهما بناء على اقتراح رئيس المحكمة العليا، أي أن هوية الرئيس ونائبه (أو الرئيسة ونائبتها أو نائبها) قرار صادر من قمة هرم السلطة القضائية المستقلة قولا وفعلا.
وفي الممارسة العملية الجارية منذ أكثر من ثلاثين عاما، يكون الرئيس في الغالب قاضيا من المحكمة العليا، ويكون نائبه محاميا متمرسا في قضايا الإعلام.
الأمر نفسه ينطبق على بقية الأعضاء. اثنان من بينهم ترشحهم نقابة الصحافيين الدانماركية، وهما صحافيان مهنيان يُختاران من داخل الجسم الصحفي نفسه بآليات ديمقراطية تحدّدها النقابة بشكل مستقل، ولم يثبت يوما أن وزير العدل ناقش النقابة في ممثليها ولا قال لها إنكم التمستم الوساطات للقائي وطلبتم مني كادي أو كدا.
عضوان آخران ترشّحهما الإدارات التحريرية في الصحف (الناشرون)، وغالبا ما يكونان من رؤساء التحرير أو مديري التحرير.
أما العضوان المتبقيان فيمثّلان الجمهور، ويُقترحان من قبل جمعية “تعليم الكبار”، وهي إطار مدني يهتم بالتربية الديمقراطية للمواطنين ومشاركتهم في الشأن العام.
عند هذه النقطة، يصبح واضحا أن «التعيين» في النص الدانماركي لا يعني إطلاقا أن الوزير يملك حرية انتقاء من يشاء؛ هو فقط يوقّع على أسماء جاءت من أربع دوائر مستقلة: القضاء، والصحافيون، والناشرون، والمجتمع المدني.
هذه التفاصيل ليست ترفا قانونيا، هي بالضبط ما يعطي شرعية لهذا المجلس في نظر الصحافيين والرأي العام. وحين يجلس قاض يُرشحه رئيس المحكمة العليا على رأس المجلس، إلى جانب صحافيين اختارتهم نقابتهم، ومديري تحرير انتخبتهم غرف الأخبار، وممثلين عن الجمهور رشحتهم هيئة مدنية، فإننا نكون أمام ما يشبه «التركيب التوافقي» بين السلطة القضائية والمهنة والجمهور.
عندما نقارن هذا البناء المؤسسي بما وقع في المغرب منذ إقرار قانون اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الصحافة، سنجد أننا أمام نموذج مقلوب. في التجربة الدانماركية، تنطلق العملية من الأسفل إلى الأعلى: المهنة والمجتمع المدني والقضاء يرشحون، ووزير العدل يصادق.
أما في تجربتنا فيبدأ كل شيء من الأعلى: الحكومة تكتب القانون، والأغلبية البرلمانية تمرره، ثم يُفتّش داخل الخريطة الإعلامية عن أسماء لتعبئة الخانات، دون مسطرة ترشيح علنية ومفتوحة من طرف النقابات المهنية أو جمعيات الناشرين، ودون معايير دقيقة تسمح بتنافس شفاف داخل المهنة على عضوية هيئة من المفترض أن تمثلها.
واليوم يراد لنا أن ننتقل إلى حالة “أكفس” و”أطلس”، وهي اختيار من “سيحكمون” هذه المؤسسة حسب وزنهم الاقتصادي، المصطنع في أغلب الحالات.
يمكن للدولة، أي دولة، أن تختار لتشكيل المجلس الوطني للصحافة بين الانتخاب والانتداب والتعيين. لكن شرط الاستقلالية واحد في جميع الحالات: ألا تكون السلطة التنفيذية هي من يمسك بمفاتيح الباب.
التجربة الدانماركية لا تمنح الوزير سندا لما يراد تمريره عندنا؛ بل العكس، تكشف أن التعيين نفسه يمكن أن يصبح ضمانة للاستقلال حين يأتي في نهاية مسطرة ترشيح مهنية ومدنية حقيقية، ويمكن أن يكون أداة للتحكم حين يتحول إلى قرار فوقي من خارج الجسم الصحفي.
ما نحتاجه اليوم ليس اللعب على حبال الكلمات بين «انتخاب» و«تعيين»، بل شجاعة الاعتراف بأن التنظيم الذاتي لا يكون ذاتيا إلا إذا كان الصحافيون أنفسهم، ومعهم شركاؤهم في المجتمع، من يختارون من يراقب مهنتهم، لا الحكومة التي يفترض أن تبقى موضوعا للمساءلة والمحاسبة، لا وصيّا على صياغة أدواتهما.
بالعودة إلى فيلم “التجربة الدانماركية”، كان الفنان الراحل طلعت زكريا، الذي جسّد شخصية “شكري سيد” (مدير مكتب الوزير) يردّ على محاولات عادل إمام إقناعه بضرورة القيام بـ”حسن الضيافة” تجاه الضيفة الأجنبية في فيلا سيادته، بعبارة بليغة تقول:
“إنت فاكر نفسك في الدانمارك يا راجل؟”