story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

البيجيدي… دورة جديدة؟

ص ص

أثار المؤتمر التاسع لحزب العدالة والتنمية، المنعقد يومي 26 و27 أبريل الماضي، الكثير من الجدل، سواء داخل الحزب أو من خارجه، ومن كافة التيارات والحساسيات، ما جعل مؤتمر “البيجيدي” حدثا استثنائيا في حد ذاته. من اليسار إلى اليمين، مرورا بأعضاء الحزب وقياداته، تعددات القراءات حول المؤتمر ونتائجه إلى حد التناقض، بالنظر إلى الخلفيات الأيديولوجية لأصحابها واختلاف تقديراتهم تبعا لمصالحهم السياسية.

ويمكن التمييز بين ثلاث توجهات كبرى في تقييم نتائج المؤتمر: التوجه الأول ركز على غياب أطروحة سياسية للمؤتمر، ما جعله يتحول إلى محطة تنظيمية جرت بشكل ديمقراطي شفاف أفضت إلى إعادة انتخاب بنكيران، لكنها لم تقدم الأجوبة الضرورية عن عدد من الأسئلة المقلقة التي تواجه الحزب، وتتعلق بمستقبله السياسي في بيئة سياسية مختلة لصالح مراكز قوى لا ترحم. التوجه الثاني احتفائي، اختار أصحابه التركيز على نتائج المؤتمر باعتباره تتويجا لمسار تعافي الحزب من أزماته، بحيث بدا المؤتمر عرسا لا كالأعراس، لأنه أكد تجاوز الحزب لتحدي البقاء والاستمرارية في مواجهة خصومه الذين أهانوه مرتين في 2017 ثم في 2021. لذلك كان الاحتفاء قويا، لأن المؤتمر أكد أن الحزب لم يمت فقط، بل قدّم الدليل أنه بصدد دورة سياسية جديدة. كلا التوجهين صدرا من داخل الحزب أساسا، أي من قياداته وأعضائه.

أما التوجه الثالث، فهو تسفيهي وتشكيكي، عبّرت عنه أصوات من تيارات مختلفة معادية أو منافسة لـ”البيجيدي”، تزعم أن إعادة انتخاب بنكيران كان انتصارا للعاطفة بدل العقل، تحول الحزب معه أو يكاد إلى “زاوية” تدور حول شخص هو بنكيران، مسفّهة نتائج المؤتمر في المجمل، بل تذهب إلى حد تسفيه الحزب، بحجة أنه استنفذ دوره الإصلاحي بعد تجربته الحكومية لولايتين بنتائج أثبتت محدودية الخيار الإصلاحي في بنية سلطوية مهيمنة، بل فقد مصداقيته بعدما انتهت به تلك التجربة إلى الانحراف عن مبادئه، كما يدل على ذلك توقيع أمينه العام السابق على اتفاق التطبيع مع إسرائيل، لقد تغيّر بدل أن يُغيّر، وصار رقما سياسيا عاديا وفي أحسن الأحوال واقي من الصدمات.

مهما يكن التوجه الأقرب إلى الواقع والأدق في فهم وتفسير مؤتمر حزب العدالة والتنمية ونتائجه، فإن لكل توجه خلفياته وحساباته السياسية كذلك. بحيث يبدو كل طرح من تلك التوجهات مؤطرا برهانات خاصة بأصحابه في الغالب، إذ لا ينطلق من السياق الداخلي للحزب ورهاناته، والذي ظل يكابد طيلة سنوات للخروج من أزماته الداخلية المتراكبة، ولا يستحضر السياق السياسي الوطني الذي يتسم بحالة من الركود، حيث توارت السياسة وهيمنت لغة المال والصفقات، ولا السياق الإقليمي والدولي حيث هيمنة سياسات القوة والنفوذ وتراجع الديمقراطية والقانون والقواعد إلى موقع ثانوي. باستحضار تلك السياقات، تحاول هذه الورقة الإجابة عن سؤالين قصيرين: الأول، إلى أي حد يمكن القول إن المؤتمر عبّر عن مستوى متقدم في مسيرة تعافي الحزب من أزماته؟ السؤال الثاني: كيف يمكن قراءة نتائج المؤتمر؟ وما الأجوبة التي قدّمها للخروج من حالة الركود السياسي التي دخلها المغرب في السنوات الأخيرة؟

المؤتمر تتويجا لمسار التعافي

الإجابة عن السؤال الأول تتأسس على فرضية أن المؤتمر شكل تتويجا لمسار التعافي والخروج من أزمته، وإن لم يغلق قوسها تماما. لأن الأزمة ليست معطى جامد، بل تعبير عن دينامية تتفاعل في إطارها وحولها مواقف ومصالح وفرص وربما تهديدات. بعضها موضوعي وبعضها ذاتي، كما أن بعض معطياتها داخلية بيد الحزب وأعضائه، وأخرى خارجية تتجاوز الحزب كقوة سياسية، محدود التأثير والنفوذ بالنظر إلى ميزان القوى القائم كما أعيد تشكيله بعد 2016، أي منذ إبعاد بنكيران من رئاسة الحكومة للمرة الثانية.

بناء على ذلك، فالتعاطي مع الأزمة داخل الحزب لم يكن وفق مسار واحد، بل وفق مسارات متعددة، سياسية، تنظيمية، ونضالية، لكن عند التأمل فيها تبدو غير مكتملة حتى الآن، بحيث قد يتطلب الوضع الحزبي سنوات أخرى للتعافي التام. هذا إذا لم تطرأ في مسيرة الحزب خلاله المرحلة المقبلة (2025-2029) أزمة أخرى تعمق ما قبلها من أزمات. وهو سيناريو قائم بالنظر إلى أن “البيجيدي” عاش حالة أزمة بالفعل بعد 2017، إثر ما سمي بـ”البلوكاج” الذي أفضى إلى إبعاد بنكيران وتعيين سعد الدين العثماني بدلا عنه رئيسا للحكومة، وهي أزمة حاول الحزب جاهدا تجاوزها خلال سنتي 2018 و2019، كما عبّرت عن ذلك مبادرة الحوار الداخلي مثلا. لكن في 2020 طرأت مواقف أخرى أدخلت الحزب في أزمة أعمق، على خلفية الموقف من الاتفاق الثلاثي المفضي إلى التطبيع مع إسرائيل وقضايا أخرى (قانون التعليم، قانون الكيف..). بمعنى أن الأزمة داخل “البيجيدي” في حقيقتها عبارة عن “أزمات متراكبة Polycrisis”، يغذي بعضها بعضا، ولها آثار مضاعفة على التنظيم الحزبي وعلى العلاقات بين أفراده. والراجح أن بعضها ذاتي ناتج عن مواقف نفسية للقيادات فيما بينها أو عن خلافات في التقدير السياسي، وبعضها موضوعي ناتج عن اختلال جوهري في موازين القوى الذي بات لصالح مركب السلطة منذ 2016 على الأقل.

وفق منطق المسارات المتعددة في معالجة تداعيات “الأزمات المتراكبة” داخل الحزب، منذ المؤتمر الاستثنائي في أكتوبر 2021 حتى المؤتمر التاسع في أبريل 2025، جرت تطورات سياسية وتنظيمية متلاحقة داخل الحزب وفي محيطه، كانت لها نتائج غير متوقعة على روح الحزب وجسده التنظيمي. تجعل المتابع له يخلص إلى أن قيادته اتبعت أسلوب تجاوز حالة الأزمة من خلال الانغماس في معارك سياسية، صنع منها فرصا له، وحقق من خلال الاشتباك معها نتائج إيجابية ولو جزئية، يتم البناء عليها من أجل الانتصار في معارك أخرى تمثل فرصا جديدة. وهكذا، بالانتقال من معركة إلى أخرى، ومن نصر سياسي إلى آخر، يتم تجاوز حالة الأزمة عبر الانخراط في وضع سياسي/نفسي جديد. لا يعني ذلك موت الأزمة تماما، فالأزمات لا تموت بل تترك ندوبا تذكرنا بها باستمرار، لكن بالإمكان تحويلها إلى حافز ودافع للمواجهة والتحدي، سواء تحت ضغط تحدي الوجود وحفظ البقاء، أو من أجل الانتصار على عدو/خصم سياسي (أخنوش مثلا)، أو بناء تجربة جديدة/ولادة جديدة وهو الأهم.

لنلاحظ في هذا الإطار كيف أن الحزب أصر على الانخراط في معارك جزئية يعلم مسبقا أنه خاسر فيها، مثل الانتخابات الجزئية، التشريعية والجماعية، لكن رغبته في مغادرة حالة الأزمة وإصراره على التحدي والمواجهة، كانت المحرك والدافع الرئيسي. خلال مشاركته في الانتخابات الجزئية بجماعة الدخيسة نواحي مكناس أو في الدائرة الجنوبية بفاس مثلا، كان واضحا مثلا تركيز القيادة (بنكيران تحديدا) على حجم الانخراط والتعبئة، من خلال مؤشرات بسيطة مثل عدد الحضور في الجمع العام المحلي، أو حيوية وحافزية الأعضاء للقيام بالحملة الانتخابية، وهي الحيوية التي استثمرها في بث الأمل واستنهاض قواعد الحزب، وفي الوقت نفسه توفير الغطاء السياسي من خلال فضح تجاوزات السلطة المحلية أو المرشحين الآخرين. ظلت حالة الدخيسة نموذجا يذكر به بنكيران في خطبه باستمرار، للقول إن الحزب لم يمت، وأن بالإمكان بث الروح السياسية فيه مجددا. ما أريد قوله أنه بمثل هذه المعارك الصغيرة أعاد الحزب بناء توازن نفسي جديد بين قواعده، وصناعة الأمل في انبعاث جديد تقوّى مع بروز فرص جديدة مثل تعديل مدونة الأسرة، وأخطاء حكومة أخنوش، علاوة على قضية غزة والتطبيع مع إسرائيل.

يتعلق الأمر هنا بمعارك سياسية كبيرة، شكلت فرصة للحزب للتأكيد على مرجعيته الإسلامية، وعلى مواقفه المبدئية، وفي الوقت نفسه تجديد الاتصال بحاضنته الاجتماعية الخاصة. في قضية مدونة الأسرة مثلا، تصدر الحزب النقاش العمومي، فعبأ أنصاره وحلفاءه من التيار المحافظ (مذكرات، ندوات، مهرجانات…)، بل حوّل النقاش من قضية تقنية إلى قضية سياسية عامة في مواجهة خصم جديد تجسّد على مستوى الخطاب على الأقل في وزير العدل عبد اللطيف وهبي، مركزا على مواقفه المثيرة للخلاف وللانقسام السياسي والشعبي. أما في قضية العدوان الصهيوني على غزة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، فقد شكلت الفرصة الأكبر للحزب للتبرؤ من وصم التطبيع، تجلت في حجم الانخراط وتجنيد القواعد الحزبية للمشاركة إلى جانب غيرهم في صفوف الهيئات المدنية والحزبية الرافضة للتطبيع، وبالتالي المصالحة مع قواعده الاجتماعية التي تشكل قاعدته الصلبة على الأقل.

ولعل محدودية الأداء الحكومي إزاء تحدي ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين، وكذا ملاحقة عشرات البرلمانيين ورؤساء جماعات ترابية على خلفية اتهامات بالفساد أو بسبب تجارة المخدرات، قد شكل بدوره فرصة أخرى للحزب وظفها من أجل بناء تناقض سياسي جديد مع رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، وهو التناقض الذي يمنح للحزب أوراق سياسية قد تتطور نحو أطروحة سياسية تركز على جدلية العلاقة بين المال والسلطة وعلى اتساع ظاهرة الفساد السياسي. لعل أحد مؤشراتها الكبرى الاتهامات المتواصلة لرئيس الحكومة بالوقوع في وضعية تنازع المصالح، خصوصا في صفقة “تحلية مياه البحر” في الدار البيضاء، التي فجّرت جدلا واسعا، تصدر فيه الحزب النقاش العمومي.

لعل الحيوية التي أبان عنها الحزب من خلال الاشتباك مع القضايا الأساسية السالفة الذكر قد انعكست على وضعه الداخلي، وخصوصا منذ البدء في تجلت الإعداد لمؤتمره الوطني التاسع منذ يناير 2024، وتجلت طيلة أزيد من عام وبضعة أشهر، في حجم وعمق النقاش الداخلي حول مشاريع أوراق المؤتمر التي تم تنزيلها إلى الجهات والأقاليم، وجعلها أرضية للحوار الداخلي، وفرصة لتقييم وضعية الحزب ومستقبله. ضمنيا، أتصور أنه لا يمكن الخوض في نقاش حول مستقبل الحزب بعد المؤتمر التاسع دون تقييم واف للماضي والحاضر، لكنه نقاش مر بعيدا عن الإعلام، ربما لأنه جرى على المستوى المجالي/الترابي. لا نعرف الكثير عن تلك النقاشات، ولا اتجاهات الرأي التي جرى التعبير عنها بين قواعد الحزب وقياداته، لكن من خلال تحليل الوثائق التي صادق عليها المؤتمر الأخير، قد نستخلص بعض التقييمات الأساسية لأزمات الحزب وكيفية الخروج منها، وهو عمل يمكن القيام به بشكل مستقل. لأن ما يهمنا في هذا المحور أن نؤكد أن المؤتمر شكل لحظة تتويج لمسارات التعافي، وأنه يشكل محطة أساسية في بناء دورة سياسية جديدة.

ثانيا: مؤتمر التجديد القيادي

يمكن قراءة مجريات المؤتمر من زاويا متعددة، لكن بالارتكاز على المعطيات المتوفرة والمعلن عنها حول نتائجه، بات مؤكدا أن الحزب بلغ درجة متقدمة في مسار التعافي من أزمته، وقد أبان عن ذلك طيلة محطات المؤتمر؛ بدءا من الجلسة الافتتاحية التي تميزت بحضور دولي نوعي (تركيا، السنغال، تونس، موريتانيا.. مداخلات من داخل فلسطين)، علاوة على حضور وطني نوعي كذلك، بوفود من أحزاب الأغلبية والمعارضة، ومن لدن شركائه الاستراتيجيين (حركة التوحيد والإصلاح، نقابة الاتحاد الوطني للشغل)، فضلا عن تغطية إعلامية وطنية ودولية واسعة، بحيث أظهرت الجلسة الافتتاحية أن مكانة الحزب الداخلية وعلاقاته الخارجية محفوظة وقائمة، وعبّرت عن تعبئة داخلية واسعة. المحطة الثانية تمثلت في المصادقة على أوراق المؤتمر بأغلبية قريبة من الإجماع، ويتعلق الأمر بثلاث أوراق: النظام الأساسي، الورقة المذهبية، وتوجهات المرحلة المقبلة. ولعل التصويت بنسب تقارب الإجماع يعني حصول توافق واسع في الرؤى بين قيادات الحزب وقواعده حول القراءة الممكنة للوضع السياسي الراهن، وللوضع الحزبي، أفرزت بدورها توافقا حول التوجهات والأولويات والمواقف المعبّر عنها في التقرير السياسي للمؤتمر ثم في البيان الختامي كذلك، ويعني التوافق بدون شك تجاوز أو رغبة في تجاوز المرحلة السابقة في أفق بناء توافقات جديدة.

المحطة الثالثة تمثلت في انتخاب مجلس وطني جديد، بنسبة تجديد فاقت 47 في المائة، ما يعني رغبة قوية في التجديد القيادي. إذ احتفظ المؤتمر بالقيادات من الجيل المؤسّس مثل العثماني وأفتاتي والمقرئ الإدريسي، وبالقيادات الوسيطة من جيل السبعينيات، لكنه ضخ أسماء جديدة وشابة في المجمل من جيل الثمانينيات والتسعينيات. ومعلوم أن المجلس الوطني هو من يرشح خمسة أسماء لمنصب الأمين العام ممن تتوفر فيهم الشروط التي تحددها قوانين الحزب، على أساس ترشيح اسمين على الأقل وخمسة على الأكثر، وهي التقنية التي أفرزت بنكيران والأزمي الإدريسي في المقدمة (163 و160 على التوالي)، يليهما العمري وبوانو وحامي الدين. وعموما، عبّر المجلس الوطني عن توجه واضح، بحيث اختار ترشيح القيادات التي تصدرت الحزب بعد 2021 وليس غيرها، ما يعني الاعتراف وتثمين الجهود التي بذلت لإخراج الحزب من أزمته خلال السنوات الأربع الماضية.

المحطة الثالثة، تمثلت في إعادة انتخاب بنكيران أمينا عاما للحزب بنسبة تناهز 70 في المائة من قبل المؤتمرين، وهي عملية أتت بعد ما يسمى في الحزب بـ”التداول”، الذي تعبّر فيه قيادات الحزب عن رأيها في المرشحين وأهليتهم للقيادة في المرحلة المقبلة. ومن بين 163 عضوا في المجلس الوطني عبّر 125 عن رأيهم في المرشحين (بنكيران، الأزمي، بوانو) بعد انسحاب العمري وحامي الدين. ويبدو أنه النقاش كان صاخبا وقويا، لكن أغلبية المتدخلين رجحوا استمرار بنكيران لولاية أخرى، لأسباب عديدة: -الاعتراف له بالفضل في إنقاذ الحزب من أزمته بعدما تركه آخرون ورحلوا؛ – كونه الشخص المؤهل لإعادة الحزب إلى مركز الفعل السياسي والذي يذكرهم بالانتصارات المتتالية؛ الرغبة في الانتقام من خصوم الحزب ممن تسببوا في أزماته؛ – تأكيد استقلالية الحزب في مواجهة السلطة؛ وربما لأسباب أخرى.

المحطة الرابعة تمثلت في انتخاب نواب الآمين العام وأعضاء الأمانة العامة، ويلاحظ أن البنية الصلبة داخل الأمانة العامة، التي تتكون من نائبي الآمين العام ورئيس المجلس الوطني ورئيس المجموعة البرلمانية والمدير العام للحزب، كلهم ينتمون إلى الجيل الثاني من القيادات (الأزمي الإدريسي، العمري، المعتصم، بوانو، خيرون)، وممن قادوا الحزب خلال المرحلة السابقة (2021-2025) إلى جانب بنكيران. وهي البنية التي استمرت مجتمعة، ما يعني اعتراف جماعي من لدن المجلس الوطني بنجاحها في إدارة تلك المرحلة. أما الأمانة العامة فقد عرفت تجديدا واسعا، إذ باستثناء عودة محمد يتيم من الجيل المؤسس، فإن جل أعضائها من جيل الشباب، من مواليد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وممن تولوا مسؤوليات شبابية أو تنظيمية داخل الحزب.

وعليه، تكشف تلك المحطات عن خلاصات أساسية: أولا، أن الحزب خرج من دينامية الأزمة والانحدار، وبدأ دينامية الصعود من جديد، بحيث يمكن الحديث عن انبعاث جديد وحتى إطلاق دورة سياسية جديدة، قوامها الذات الحزبية بصرف النظر عن الإكراهات الموضوعية. ثانيا، أن النتائج المعلن عنها، وخصوصا على مستوى انتخاب الهيئات القيادية، أوضحت أن الحزب أجرى انتقالا جيليا واسعا ونوعيا، سواء على مستوى المجلس الوطني أو الأمانة العامة أو النواة الصلبة في القيادة، وهو الانتقال الذي سيكتمل تحت إشراف بنكيران في المؤتمر المقبل بدون شك. غير أن تعافي الحزب وتجديد قياداته بنسبة مرتفعة سيظل بحاجة إلى نصر سياسي، يبدو أن الحزب عازم على تحقيقه في الانتخابات التشريعية المقبلة لسنة 2026، وهو رهان كبير يحتاج إلى أجوبة سياسية وليس تنظيمية فقط، من المفترض أن توفرها الأطروحة السياسية للحزب.

سؤال الأطروحة السياسية؟

من التحديات التي تواجه حزب العدالة والتنمية في المرحلة المقبلة أن يعيد تكرار نفسه، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى الإجابات. وهو تحدي يمكن تجاوزه عبر القيام بنقد ذاتي صريح لتجربته الحكومية السابقة، وباستحضار إمكاناته وقدراته على التغيير في بيئة سياسية يصعب فيها التمييز بين الدولة والنظام السياسي والحدود الفاصلة بينهما. تميل فيها موازين القوى لصالح النظام على حساب المجتمع، وتعاني القوى الحزبية والمدنية من هشاشة بالغة تنذر بفراغ سياسي مقلق. ففي كثير من المرات، وجد الحزب نفسه وحيدا في مواجهة قوى نافذة لا قبل له بها، كادت أن تخرجه من المؤسسات التمثيلية. بمعنى آخر، أن الفهم الدقيق لموازين القوى سواء في بناء المواقف أو رسم الاختيارات وتحديد الأولويات مسألة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها في أي وقت كان.

وبالرجوع إلى الأطروحة السياسية للمؤتمر ثمة جهد مقدر في تقييم موازين القوى القائمة دوليا وإقليميا، وبدرجة أخف وطنيا وحزبيا، وهو النقاش الذي أفضى إلى خلاصات متباينة كما يبدو، عكسها شعار المؤتمر “النضال من أجل مصداقية الاختيار الديمقراطي وكرامة المواطن”، حيث يبرز التنازع واضحا بين مقاربتين: الأولى تركز على مصداقية الاختيار الديمقراطي، الذي يطرح إشكالية التزام الدولة بإحدى ثوابت دستور 2011، ويشير بوضوح إلى “بلوكاج” 2016 وتلاعبات 2021؛ وبين مقاربة سياسية ثانية تطرح أولوية كرامة المواطن. الخط الأول سياسي، لكن الخط الثاني تنموي وإن بلمسة حقوقية. وبالمقارنة مع شعارات المراحل السابقة، فإن الشعار كان يعبّر عن خط سياسي واضح ومهيكل للنضال الحزبي (النضال الديمقراطي لمرحلة 2008-2012/ البناء الديمقراطي لمرحلة 2012- 2017)، أما شعار الأطروحة السياسية للمؤتمر الأخير فهي تعكس التنازع أو لنقل محاولة للتركيب بين مقاربتين هما: الديمقراطية والتنمية، علما أن النقاش حولهما عالمي، وكان يفترض بالحزب أن ينحاز إلى أحدهما بوضوح كامل.

وتعكس وثيقة “توجهات المرحلة” التشظي نفسه، حيث تتوزع الوثيقة خمسة توجهات، ما يجعلها أقرب إلى برنامج سياسي منه إلى أطروحة سياسية، حيث تؤكد على: تكريس المرجعية الإسلامية للحزب، صيانة السيادة الوطنية، استعادة مصداقية الاختيار الديمقراطي، تصحيح مسار النموذج التنموي، صيانة استقلال القرار الحزبي وتوسيع دائرة التعاون. ومن خلال قراءة مضامين كل توجه، تبدو الوثيقة موزعة بين أربع أطروحات كبرى: الهوية، السيادة، الديمقراطية، التنمية، بدون حسم واضح بينها. إذ فات الورقة ترجيح القيمة السياسية العليا لدى الحزب بين مختلف القيم الأخرى، بحيث يمكن فهم وتحديد كل تلك القيم في ضوئها الديمقراطية أو التنمية. ولعل محاولة التركيب تلك هي التي تسمح بتأويلات مفتوحة، ليس هذا مكان إبرازها.

وعموما، يبدو الحزب بحاجة إلى مزيد من النقاش حول المرحلة السابقة من تاريخه السياسي، وفي الوقت نفسه إلى إطلاق مبادرات جديدة، من شأنها أن تفضي خلال المرحلة المقبلة إلى تطوير رؤى وأفكار بديلة من أجل أطروحة سياسية متماسكة تليق بما أسمته وثائق الحزب “الانطلاقة الجديدة”، ولعل البيان الختامي للمؤتمر يشير إلى هذا الوعي لدى قيادة الحزب، خصوصا دعوته إلى مبادرة وطنية لمحاربة الفساد وتخليق الحياة العامة، إذ كان يفترض أن تكون محاربة الفساد المحور الرئيسي للأطروحة السياسية للحزب، بعدما أصبح تنازع المصالح وزواج المال والسلطة والتعدي على المال العام عناوين رئيسة للمرحلة السياسية في المغرب بعد انتخابات