الاختيارات الثّقافية ومقتضيات الهوية.. نحو تصحيح المسار قبل فوات الأوان

تعيش الساحة الثقافية في المغرب في السنوات الأخيرة على إيقاع تحوّلات مقلقة تُنذر بمسار يحتاج إلى مراجعة عميقة وجرّيئة. فقد أصبحت الخيارات والتوجهات الكبرى التي تعتمدها الدولة في مجال الثقافة بعيدة –إلى حد التناقض– عن هوية الوطن وثوابته الدينية والحضارية. وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول طبيعة المشروع الثقافي الذي يُراد لهذا البلد أن يسلكه في سياق العولمة الجارفة.
والحال أنّنا ننتمي إلى الأمّة التي أنزل الله فيها قوله الحكيم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة 143) أي الأمة الإسلامية التي وُضعت في موقع الريادة والاعتدال والشهادة على العالم، وهو ما يقتضي ثقافة أصيلة متزنة.
ولذلك فإن الحديث اليوم عن الثقافة ليس ترفًا فكريًا، ولا من باب التأملات النظرية، بل هو في صميم المشروع المجتمعي لأي دولة تطمح إلى البناء والتنمية. فالثقافة هي الحاضن الأول للقيم، وهي التي تُشكّل وجدان الأفراد وتصوغ رؤيتهم لأنفسهم وللعالم. ولا يمكن لأي مشروع تنموي أو سياسي أو اقتصادي أن ينجح بمعزل عن مشروع ثقافي متماسك، منسجم مع هوية الأمة، وحامل لتطلعاتها.
غير أن ما نلاحظه اليوم في المغرب، هو انقلاب على هذه البديهيات. فبدل أن يتم الاستثمار في ثقافة مسؤولة؛ ترتقي بالوعي، وتعزز الانتماء، وتُشجّع على الإبداع المرتبط بالخصوصية الحضارية؛ يتم الترويج لثقافة سطحية قائمة على التهريج والتفاهة والميوعة، عنوانها الأبرز: مهرجانات يُستقدَم لها من يسمّون “فنانين”؛ وهم في الحقيقة رموز للانحطاط الأخلاقي، سواء من حيث مضمون ما يقدّمونه، أو من حيث سلوكهم الشخصي المستفزّ للقيم والأعراف.
وصدق الحبيب المصطفى إذ قال ﷺ: “إنَّ ممَّا أدرك النَّاسُ من كلامِ النُّبوَّةِ الأولَى: إذا لم تستحْيِ فاصنَعْ ما شئتَ” (صحيح البخاري؛ أبو مسعود عقبة بن عمرو) ليوضح أن المجاهرة بالمنكر والانحطاطَ في الذوق العام؛ إنّما هو نتيجة طبيعية لغياب الحياء، وهو للأسف ما يعكسه هذا التوجه الثقافي الرسمي.
والأدهى من ذلك، أن هذا التوجّه يتمّ بإشراف رسمي؛ بل وبدعم مباشر من مؤسسات عمومية، وقنوات تابعة للقطب الإعلامي العمومي، الذي يُفترض أن يكون مُلتزما بتوجيهات الدستور، وخاصة بالفصل 165 الذي يربط دور المؤسسات السمعية البصرية بحماية القيم الحضارية للمملكة وقوانينها. إذ أنّ هذه القنوات مسؤولة عن محتوى الإعلام، وما يُعرض للناس من منكرات وتفاهات. قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء 36). غير أن ما يحدث هو العكس تمامًا: إذ يتم نقل فقرات غنائية ساقطة إلى عموم البيوت المغربية، دون أي مراعاة لا لحساسية الأسر، ولا لسنّ المتلقين، ولا لمشاعر الملايين من المواطنين الذين ما زالوا يعتزّون بانتمائهم الأخلاقي والديني.
وقد بلغ الاستخفاف بالمواطنين مبلغًا لا يُحتمل حين رفع العشرات، بل المئات، شكاوى إلى المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري؛ مطالبين بالتدخل لوقف هذا العبث، فإذا بهم يُقابلون بصمت أو بردود باردة لا ترقى إلى مستوى تطلعاتهم حيث تمّ حفظ شكاواهم؛ وكأن الأمر لا يعني أحدًا. وهذه سابقة خطيرة في علاقة الدولة بمواطنيها، لأنها تعني –بوضوح– أن صوْت الرأي العام لم يعد مسموعًا، وأن مؤسسات الضبط والمراقبة لم تعد تقوم بأدوارها الدستورية.
هذا الوضع لا يمكن فصله عن التحديات الكبرى التي يُقبِل عليها المغرب، وعلى رأسها احتضان كأس العالم سنة 2030، وهو حدث استثنائي سيوجّه أنظار العالم إلى البلد، وسيوفد إليه آلاف الشباب من مختلف الثقافات. وكان من المفترض في مثل هذا السياق؛ أن يتم تأهيل الشباب المغربي ليكون في مستوى هذا الموعد؛ لا فقط من الناحية التنظيمية؛ بل من حيث الصورة التي يعكسها عن بلده وقيمه.
وكان من البديهي أن تُستثمر المرحلة في تعزيز ثقافة تحصّن هذا الشباب من الانجراف وراء النماذج الغربية المُفرغة من المعنى، وأن يُقدّم المغرب نفسه كنموذج حضاري متوازن، يحترم قيم الانفتاح، لكنه يعتزّ في الوقت ذاته بهويته الأصيلة وموروثه الأخلاقي والديني.
لكنّ ما نعيشه اليوم هو مسار معكوس. إذ يتم تغييب الثقافة الجادة، ويُقصى المثقفون الحقيقيون الذين يحملون رؤية ناضجة ومسؤولة، بينما تُفتح الأبواب على مصراعيها أمام موجة من “النجوم” الذين لا يُجيدون سوى الإثارة والإسفاف. وهكذا تتحوّل الثقافة إلى أداة تفريغ وابتذال، بدل أن تكون وسيلة بناء وارتقاء.
ولا يخفى أن هذه السياسات الثقافية لا تؤثر فقط في المستوى الأخلاقي للمجتمع، بل تمتد إلى تفكيك النسيج الهوياتي للشباب المغربي، الذي يجد نفسه بين نموذجين: نموذج مستورد يُقدَّم له على أنه “النجاح”، ونموذج أصيل يُقصى ويُسخر منه ويُقدَّم على أنه “تخلّف” أو “تشدّد”. وهنا تقع الفجوة الخطيرة التي تهدد التوازن النفسي والمعنوي لجيل كامل.
إن هذا الواقع يُحتم على الجميع، مسؤولين ومثقفين ومواطنين، دق ناقوس الخطر، والمطالبة الجادّة بتصحيح هذا المسار الثقافي المنحرف. وهو تصحيح لن يتم إلا بتبنّي رؤية ثقافية وطنية، تُعيد الاعتبار لقيم المجتمع، وتُعلي من شأن الفن الهادف، وتُشرك الطاقات الفكرية الصادقة في صياغة البدائل. كما أن الإعلام العمومي مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ بالعودة إلى أداء رسالته النبيلة، لا أن يتحوّل إلى أداة ترويج للابتذال.
إن مغربنا بلد عريق، له من المخزون الثقافي والحضاري ما يجعله قادرا على الإبداع والتميز دون الحاجة إلى الاستيراد الأعمى أو الإغراق في التقليد السطحي. وشبابه لا يَقِلّون طموحًا ولا قدرة عن غيرهم، لكنهم يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم، لا من يُغرقهم في التفاهة. والكلّ مسؤول؛ قال رسول الله ﷺ: ” كُلُّكُمْ راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ”(صحيح البخاري؛ عبد الله بن عمر)، وفيه دعوة مباشرة للمسؤولين والمثقفين لتحمّل واجبهم الأخلاقي والتربوي والثقافي.
لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للثقافة كأولوية استراتيجية، لا كمجرد واجهة إعلامية أو وسيلة لتسكين الاحتجاجات. ولعلّ أوّل خطوة في هذا المسار تبدأ بالاعتراف بأن هناك خللاً، وبالإرادة الصادقة في تجاوزه، من أجل مستقبل يليق بالمغرب وأبنائه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11)، وفيه تأكيد على أن الإصلاح يبدأ من الاعتراف بالمشكلة والعمل الجاد لتجاوزها.
والله من وراء القصد وهو يهدي السّبيل.