الإبادة الجماعية في غزة وتآكل الدعم الشعبي لإسرائيل في أمريكا.. تحوّل في السرديات والتصورات الاجتماعية

تشير نتائج استطلاع مركز بيو (أبريل 2025) إلى تآكل ملحوظ في الدعم الشعبي الأميركي لإسرائيل، في وقت تتعرض فيه الأخيرة لاتهامات متزايدة بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة. هذه المؤشرات لا تعكس فقط تغيرات ظرفية في المواقف السياسية، بل تُشير إلى تحوّل أعمق في البنية السردية التي لطالما شكّلت فهم الأميركيين – ومؤسساتهم – لطبيعة ما يسمى في الادبيات “الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”.
فالتراجع في اعتبار الصراع مهماً على المستوى الشخصي، من 65% في يناير إلى 54% في مارس، والنظرة السلبية المتنامية تجاه إسرائيل، وخاصة بين الديمقراطيين، الشباب، والمسلمين، يعكسان عملية إعادة تشكيل بطيئة ولكن جذرية لما يمكن تسميته بـ”التصورات الاجتماعية” (social imaginaries) – أي أنماط الفهم الجماعي التي تحدد ما يُعتبر ممكناً، مشروعاً، أو مقبولاً في المجال السياسي والأخلاقي العام.
لطالما سيطر خطاب ثنائي في أميركا يُصور إسرائيل كضحية دائمة في وجه تهديد فلسطيني وعربي غير محدد، وكل خطاب ينتقد تصرفاتها يصنف بأنه “معاداة للسامية”. لكن مشاهد الحرب والدمار في غزة، والمجازر الموثقة بحق المدنيين، وتصاعد حركة التضامن مع غزة في السنة الفارطة في الجامعات وفي الشارع العام، كلها عوامل تساهم في تُفكك هذه السردية، مفسحة المجال لسردية مضادة تؤطر إسرائيل كقوة استعمارية تمارس عنفاً ممنهجاً، لا يمكن تبريره تحت عنوان “الدفاع عن النفس”.
وفي هذا السياق، جاء فوز زهران ممداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في مدينة نيويورك كإشارة واضحة على هذا التحول السياسي والاجتماعي.
ممداني، وهو مرشح تقدّمي من أصول مسلمة، اعتمد خطاباً صريحاً ضد جرائم الحرب الإسرائيلية ودعا إلى إنهاء الدعم العسكري الأميركي لإسرائيل. فوزه لا يُعدّ فقط انتصاراً رمزياً لجناح الحزب المعارض للسياسات الإسرائيلية، بل يعكس اتجاهاً أوسع داخل أوساط الناخبين، لا سيما الشباب والملونين، الذين يربطون دعم إسرائيل بانتهاك حقوق الإنسان والفصل العنصري.
لا يُفهم فوز زهران ممداني بوصفه حدثا انتخابيا فقط، بل هو مؤشر على اختراق سردية جديدة للحيز السياسي الأميركي، مدفوعة بوعي جمعي آخذ في التبدّل. فوزه يجسد الانتقال من “السردية المركزية” الداعمة غير المشروطة لإسرائيل، إلى فضاء تعددي تبرز فيه أصوات تتحدّى القيم المهيمنة وتقترح تصوراً بديلاً للعدالة والحقوق الدولية.
هذا التحول في السرديات، كما هو معلوم في أدبيات العلوم الاجتماعية، لا يحدث بين ليلة وضحاها. بل هو نتيجة تراكم طويل من الاحتجاجات، والتغطية الإعلامية، والمواقف الحقوقية، والأزمات الأخلاقية التي تعرّي الفجوة بين القيم المعلنة (كالحرية وحقوق الإنسان) والسياسات الفعلية. ومع أن بنية الخيال الاجتماعي لا تنهار بسرعة، فإن ما نشهده اليوم هو اهتزازها وبدء إعادة ترسيم حدودها.
كما يُظهر الاستطلاع، فإن الثقة في نتنياهو منخفضة للغاية، لا سيما بين الديمقراطيين واليهود الأميركيين، في حين يُرفض بشدة مقترح أن تتولى الولايات المتحدة إدارة قطاع غزة، وهو ما يكشف أيضاً عن حالة من فقدان الأمل في الأطر السياسية التقليدية، وانفتاح على حلول أكثر جذرية.
في المحصلة، فإن الإبادة الجارية في غزة لا تعيد فقط تشكيل المواقف السياسية، بل تُعيد تركيب الخيال الاجتماعي نفسه، وتدفع الأميركيين – خاصة الجيل الجديد – إلى مساءلة التحالفات الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد نشهد خلال العقد المقبل إعادة تموضع جذرية للعلاقة مع إسرائيل، ليس فقط على مستوى السياسات، بل في بنية السرديات التي تُشرعن هذه السياسات.
*عزالدين العزماني
باحث مغربي متخصص في العلوم السياسية ودراسات الإسلام المعاصر. حاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاضي عياض بمراكش، وعلى دبلوم متخصص في الدراسات الدينية المقارنة من جامعة هارتفورد الدولية بكونيكتكت (الولايات المتحدة الأمريكية). يشغل منصب محاضر رئيسي بكلّية ترينيتي (هارتفورد، كونكتيكت).