story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

الألعاب الإلكترونية.. صناعة المستقبل وهندسة العزلة

ص ص

يشهد المغرب اليوم بروز صناعة الألعاب الإلكترونية كقطاع ناشئ يحمل في طياته إمكانات كبيرة للتحول إلى رافعة اقتصادية بديلة، تتجاوز دورها التقليدي كنشاط ترفيهي إلى محرك حقيقي للنمو والتشغيل.

ورغم حداثة هذه الصناعة في المشهد الوطني، إلا أنها تحظى باهتمام متزايد من قبل المؤسسات الحكومية والفاعلين الاقتصاديين، استجابة لتوجه عالمي متسارع نحو تطوير هذا القطاع الديناميكي.

يعكس هذا القطاع اليوم قدرة استثنائية على إحداث تأثير اقتصادي واجتماعي ملموس، في ظل توسع سوق الألعاب الإلكترونية عالميًا ليصبح من أسرع القطاعات نموًا في الاقتصاد الرقمي، حيث تجاوزت قيمته 300 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي يقارب 10٪، وبزيادة نسبة اللاعبين التي قد تصل إلى 20٪ من سكان العالم.

وقد نجحت دول مثل كوريا الجنوبية، والصين، وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، في بناء منظومات صناعية رقمية متطورة، جعلتها مراكز عالمية للإنتاج والابتكار في هذا القطاع، مما يشكل نموذجًا يحتذى به للمغرب في سعيه لتطوير هذا المجال.

في هذا السياق، ينخرط المغرب في مسار مماثل بهدف تحويل هذه الصناعة إلى رافعة اقتصادية بديلة، تستقطب الشباب وتوفر فرص عمل، وتعزز البعد الرقمي والإبداعي للاقتصاد الوطني. إلا أن هذا التوجه يطرح نقاشًا عميقًا حول أبعاده الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

فهل يمثل هذا المجال حقًا، استثمارا إستراتيجيا في بناء اقتصاد المعرفة؟ أم أنه قد يكرّس تبعية رقمية ويشتت اهتمام الأجيال عن قضايا البحث العلمي ويعزز من استفحال ظاهرة العزلة الاجتماعية؟

الطموح الاقتصادي الواعد

يمكن القول أن بداية تشكّل ملامح قطاع الألعاب الإلكترونية كانت سنة 2024، مدفوعة بطموحات لتحقيق مكانة تنافسية إقليمية وعالمية. ومن أبرز مؤشرات هذا الطموح، تنظيم معرض سنوي متخصص في الرباط، حيث تسعى الدولة إلى بناء “مدينة متخصصة في تطوير الألعاب الإلكترونية” لتتحول من مستهلك للمحتوى إلى منتج ومبتكر.

وفي سنة 2025، شرعت وزارة الشباب والثقافة والتواصل في إطلاق حزمة من الإجراءات لدعم هذا القطاع، شملت تأهيل الشباب، وتوفير حاضنات للمشاريع المبتكرة، وإدماج تخصصات الألعاب الإلكترونية في الجامعات عبر توقيع اتفاقيات شراكة، بتاريخ 13 ماي 2025، مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار.

كما تم تطوير برامج تكوينية في مؤسسات التكوين المهني لتشمل مهنًا ناشئة مثل “معلّق الرياضات الإلكترونية” و”منتج محتوى الألعاب”. فضلا عن تمكين الشباب من الاستفادة من برنامج تمويلي باسم “Boost in Gaming، مدعوم من صندوق “Innov Invest”، والذي يقدم منحًا تصل إلى 500,000 درهم مغربي لتطوير مشاريع الألعاب الإلكترونية.

ويشهد السوق المغربي تناميا في عدد الشركات الناشئة في مجال الألعاب، خصوصا في الدار البيضاء والرباط، التي تنشط في دعم المطورين الشباب وتنظيم مسابقات وطنية مثل “Game Z Festival”، إلى جانب برامج تدريبية متميزة مثل “Morocco Game Lab”.

كما جرى تنفيذ برنامج “حاضنة ألعاب الفيديو ‘Video Game Incubator’” يوم 10 مارس 2025، والذي يهمّ احتضان 9 مقاولات ناشئة في مجال الألعاب الإلكترونية في إطار شراكة مغربية-فرنسية.

ويهدف هذا البرنامج إلى مواكبة المقاولين المغاربة من خلال هيكلة وتطوير ضمان استمرارية مقاولاتهم، وتسريع اكتساب المهارات، وتعزيز التنسيق بين الفاعلين المغاربة في هذه المنظومة على الصعيد الدولي.

وبحسب تصريحات إعلامية أدلى بها الوزير الوصي على قطاع الاتصال، محمد المهدي بنسعيد، فإن هذه المبادرات مرشحة لخلق نظام اقتصادي جديد قادر على توفير حوالي 50 ألف فرصة شغل، منها 3,330 فرصة شغل مباشرة، مشيرا إلى أن رقم معاملات قطاع الألعاب الإلكترونية في المغرب بلغ حاليا 129 مليون دولار، ما يمثل 60.07% من السوق العالمية، متجاوزا بذلك أرقام معاملات العديد من الصناعات الثقافية والفنية الأخرى، مما يعكس تحوّلاً واعدًا في سوق الشغل الوطني.

في حين أشارت نسرين السويسي، المسؤولة في وزارة الشباب والثقافة والاتصال، والمشاركة في استراتيجية تطوير الألعاب في البلاد. إلى أن الوزارة أجرت دراسة عام 2021 حدّدت فيها صناعة الألعاب باعتبارها قطاعا ذا إمكانات خاصة بالنسبة للمغرب، الذي ينمو اقتصاده بنحو 4% سنوياً، إلا أنه يعتمد بشكل كبير على الفوسفات والأسمدة والصناعات الزراعية، فضلاً عن السياحة.

وأضافت السويسي أن الهدف هو مضاعفة إيرادات هذه الصناعة إلى 5 مليارات درهم (544 مليون دولار)، من 2.5 مليار درهم بحلول 2030، مع توقع الوزارة ظهور أولى الألعاب المطورة محلياً خلال بضع سنوات.

يستند هذا الطموح إلى نتائج تجارب دول رائدة في هذا المجال، مثل كوريا الجنوبية التي نجحت في خلق أكثر من 40 ألف وظيفة مباشرة في قطاع الألعاب الإلكترونية، والصين التي تجاوزت أرباحها السنوية 45 مليار دولار بفضل دعم حكومي ممنهج، وكندا التي حققت عائدات تفوق 5 مليارات دولار وأسهمت في توفير أكثر من 32 ألف فرصة عمل.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، ووفقًا لتقرير صادر عن شركة الاستشارات “برايس ووترهاوس كوبرز” (PwC)، فقد بلغت قيمة سوق الألعاب الالكترونية نحو 21 مليار دولار سنويًا، متجاوزة بذلك إيرادات شباك التذاكر وسوق الموسيقى مجتمعتين.

كما يساهم هذا القطاع في خلق أكثر من 65 ألف وظيفة مباشرة داخل الولايات المتحدة، بحسب إحصائيات جمعية برمجيات الترفيه الأمريكية.

تحدي التبعية الرقمية والانفصال القيمي

رغم هذه المؤشرات الإيجابية، يثير التوسع السريع في صناعة الألعاب الإلكترونية جملة من التساؤلات الجدلية، خصوصا في ظل واقع تعليمي وبحثي يواجه تحديات بنيوية في المغرب. إذ أن توجيه موارد مالية ضخمة نحو قطاع ترفيهي ناشئ، قد يؤدي إلى تهميش أولويات استراتيجية مثل تطوير المناهج العلمية وتعزيز البحث والابتكار، وهما ركيزتان أساسيتان لأي اقتصاد تنافسي ومستدام.

ويزيد من حدة هذا التساؤل ضعف البنية التحتية التعليمية، وتدني مستوى الاستثمار في البحث العلمي، مما يطرح إشكال جدوى إنشاء مختبرات متخصصة في تطوير الألعاب الإلكترونية، مقارنة بالحاجة الملحّة لدعم تخصصات أكثر حيوية كعلوم البيانات والذكاء الاصطناعي، التي تُعدّ محركات رئيسية للاقتصاد الرقمي المستقبلي.

فبينما تُقدّر تكلفة مشروع إحداث منطقة صناعية متخصصة في الألعاب الإلكترونية بالعاصمة الرباط بنحو 360 مليون درهم، وتُخصص قرابة 49 مليون درهم لتنظيم الدورة الثانية للمعرض الدولي للألعاب الإلكترونية، فإن الميزانية الوطنية الموجهة للبحث والتطوير لا تتجاوز نسبة 0.8 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تبقى دون المعدلات الموصى بها دوليًا، وتُعَدّ مؤشرًا على هشاشة السياسة العلمية والتكنولوجية في البلاد.

إضافة إلى ذلك، هناك مخاطر أخرى محتملة تتمثل في ترسيخ ثقافة الانعزال الرقمي والتوجه الفرداني لدى الشباب، وقد تصبح الألعاب الإلكترونية وسيلة للهروب من الواقع بدل تحفيز التفكير النقدي والابتكار.

وفي هذا السياق، لا تزال آثار الألعاب الإلكترونية على العلاقات الاجتماعية والصحة النفسية موضع جدل. وتشير بعض الدراسات، من أبرزها دراسة صادرة سنة 2024 عن مجلة الصحة النفسية العمومية بعنوان ‘its ,not just a game, social networks, isolation and mental health in online gamers’ إلى أن الألعاب الإلكترونية يمكن أن توفر فرصًا للتواصل الاجتماعي والدعم والشعور بالانتماء للمجتمع، مما قد يؤثر إيجابًا على الصحة النفسية.

ومن ناحية أخرى، ارتبط الإفراط في اللعب بنتائج سلبية مثل العزلة الاجتماعية، وانخفاض مستوى الرضا عن الحياة، وزيادة خطر السلوكيات الشبيهة بالإدمان.

فالصحة النفسية تحيل على حالة الرفاه العاطفي والنفسي والاجتماعي للفرد، وهي لا تعني فقط غياب الاضطرابات العقلية، بل تشمل أيضًا تحقيق أداء وظيفي متوازن وازدهار داخلي.

وتشمل أبرز مؤشرات الاضطرابات النفسية، القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية وتدنّي مستوى الدعم الاجتماعي المُتصوَّر. ويتميز القلق بشعور دائم بالخوف والتوتر، مصحوب باستجابة نفسية فيزيولوجية مفرطة من نمط “الهروب أو المواجهة”، ما قد يُصبح مرضيًا إذا بلغ مستويات مزمنة. أما الاكتئاب، فيرتبط بانخفاض مستمر في الحالة المزاجية، وفقدان الاهتمام، وظهور اضطرابات معرفية وجسدية تؤثر سلبًا على الأداء اليومي للفرد.

وقد صنّفت منظمة الصحة العالمية إدمان الألعاب الإلكترونية ضمن قائمة الأمراض النفسية في التحديث الحادي عشر للتصنيف الدولي للأمراض (يونيو 2018)، حيث ترى أن الشغف المفرط بالألعاب الإلكترونية يعد نوعا جديدا من الاضطرابات العقلية.

ويتميّز اضطراب الألعاب بحسبها بنمط سلوك اللعب المستمر أو المتكرر، “كما يمكن أن يكون هذا الاضطراب ناجما عن ضعف التحكم في تواتر وشدة ومدة اللعب، وزيادة الأولوية الممنوحة للألعاب إلى درجة أنها تأخذ الأسبقية على الأنشطة والالتزامات اليومية الأخرى”. وأوضحت المنظمة أن هذه الحالة شديدة بما يكفي لتؤدي إلى ضعف كبير في المجالات الشخصية والأسرية والاجتماعية والتعليمية أو المهنية، وغيرها من المجالات المهمة…. وعادة ما تكون جوانب الاضطراب واحدة لمدة 12 شهرا على الأقل وهو ما يستلزم سرعة التشخيص.

علاوة على ذلك، أظهرت دراسة أخرى صادرة سنة 2015 بعنوان Psychosocial causes and consequences of online video game play العلاقة بين انخفاض الكفاءة الاجتماعية والمشاركة المفرطة في ألعاب الفيديو عبر الإنترنت، حيث يعاني المستخدمون من تدهور ملحوظ في مهاراتهم الاجتماعية نتيجة الانخراط المطول أو المفرط في هذا الوسيط التفاعلي.

ويرى الباحثون أن العلاقة بين الكفاءة الاجتماعية وألعاب الفيديو قد تكون علاقة سببية في الاتجاهين؛ فالكفاءة الاجتماعية المنخفضة قد تكون سببًا للميل إلى اللعب المطول، ونتيجة له في آنٍ واحد.

في هذا المجال، تعدّ تجربة اليابان مثالًا حيًا، حيث تعاني مدينة يوكوهاما قرب طوكيو من ظاهرة “هيكيكوموري” ‘Hikikomori’، التي تضم آلاف الشباب البالغين الذين يعيشون منعزلين داخل منازلهم لسنوات، ويكتفون بالتواصل عبر الإنترنت فقط.

بدأت هذه الظاهرة برفض المراهقين الذهاب إلى المدرسة، ثم تطورت إلى عزلة اجتماعية عميقة تمتد حتى مرحلة البلوغ، مع تقديرات رسمية تشير إلى وجود حوالي 700 ألف شخص يعانون من هذه الحالة، يقضي معظمهم أوقاتهم في اللعب بالألعاب الإلكترونية.

وتوضح هذه الظاهرة كيف يمكن للاستخدام المفرط للألعاب الإلكترونية أن يتحول إلى عامل يعزز الانعزال والتوجه الفرداني.

بالإضافة إلى ذلك، قد يجعل غياب سياسة ثقافية شاملة، هذا القطاع مجرد أداة استهلاك وترفيه بلا بعد ثقافي أو تعليمي متكامل. كما يبقى الاقتصاد الرقمي هشًا أمام تقلبات الأسواق العالمية وهيمنة عمالقة التكنولوجيا، مما يجعل بناء سيادة رقمية وطنية تحديًا كبيرًا في غياب استراتيجية متماسكة للابتكار والتطوير التكنولوجي.

الرهان السلطوي على العزلة الرقمية

في ظل ما يعرفه المغرب من تحولات اجتماعية واقتصادية معقدة، تتجه الأنظار نحو صناعة الألعاب الإلكترونية باعتبارها أداة مزدوجة: فهي من جهة قد تمثل فرصة اقتصادية واعدة، ومن جهة أخرى قد تُستغل لإعادة تشكيل علاقة الشباب بالفضاء العام، خصوصًا في سياق تتراجع فيه معدلات المشاركة السياسية والاجتماعية، وتتفاقم فيه مؤشرات الإقصاء والتهميش.

ومع تزايد معدلات البطالة لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة، حيث تجاوزت 36%، وتسجيل أكثر من 37% من الشابات لا يعملن، ولا يتدربن، ولا يتابعن تعليمًا، مقابل 13.5% من الذكور، تعتمد فئات واسعة من الشباب على الوسائط الرقمية كملاذ بديل عن المشاركة الفعلية في الشأن العام.

وقد كشفت جائحة كوفيد-19، من جهتها، عن هشاشة آليات الإدماج المهني، وضعف البنية التكوينية، مما عمّق الفجوة بين الخطاب التنموي الرسمي والواقع المعيش للشباب.

ويُلاحظ أن السياسات العمومية ما زالت عاجزة عن معالجة أسباب التهميش الاجتماعي، إذ تُظهر أرقام المندوبية السامية للتخطيط أن هناك 1.5 مليون مغربي مصرح بهم كعاطلين عن العمل، و3.4 ملايين يعملون لحسابهم الخاص، غالبيتهم في أنشطة غير مهيكلة، بالإضافة إلى 3 ملايين أجير في القطاع غير الرسمي، و11 مليون شخص في سن العمل لا يمارسون أي نشاط مهني، بينهم 3 ملايين فقط يتابعون الدراسة.

وتشير المعطيات كذلك إلى أن نسبة 20% من المغاربة يعيشون في فقر مدقع (أقل من 1.9 دولار يوميا)، و40% في فقر نسبي، و60% في حالة هشاشة اجتماعية، ضمن سياق يعرف تطلعات متزايدة للارتقاء والعدالة الاجتماعية، بفعل التحضر، وتوسع التعليم، والانفتاح على النموذج الاستهلاكي العالمي.

هذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتردي يجعل من الانعزال الرقمي بيئة خصبة، ويخلق شروطًا ملائمة لرهان سلطوي غير معلن على دفع الشباب نحو الفضاءات الافتراضية، بعيدا عن الميادين السياسية والنقاشات العمومية، فتُصبح صناعة الألعاب الإلكترونية، في هذا الإطار، أداة لإعادة هندسة وعي الأجيال الصاعدة، وتشجيعها على الانكفاء الفردي، والانخراط في عوالم لا تُنتج معرفة ولا تساهم في التغيير، بل تُكرّس التبعية الرقمية، وتكسر الروابط الجماعية، وتُقلص من هامش التأثير الشبابي في الفعل العمومي.

وما يثير الانتباه أكثر، هو الاختيار السياسي القائم على توجيه استثمارات ضخمة نحو هذا القطاع الترفيهي الناشئ، دون رؤية استراتيجية واضحة تربط بينه وبين حاجيات البحث العلمي والتعليم العالي.

فعلى سبيل المثال، تتجاوز تكلفة مشروع إحداث منطقة صناعية متخصصة في الألعاب الإلكترونية بالعاصمة الرباط 360 مليون درهم، إضافة إلى 49 مليون درهم لتغطية المعرض الدولي للألعاب الإلكترونية، في حين لا تتجاوز نسبة الاستثمار الوطني في البحث العلمي 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم ضعيف جدًا بالمقارنة مع المعدلات العالمية.

هذا التفاوت يطرح تساؤلات حقيقية حول أولويات الدولة: هل الهدف هو بناء اقتصاد رقمي معرفي، أم مجرد استيعاب مؤقت لغضب اجتماعي متصاعد عبر وسائل تسلية محايدة ظاهريًا، وموجهة سياسيًا ضمنيًا؟

ومع تفاقم الإشكالات الاجتماعية، قد يُستخدم قطاع صناعة الألعاب الإلكترونية كإستراتيجية لممارسة السلطة لإعادة تشكيل علاقات الشباب بالفضاء العام، من خلال تحويل اهتمامهم إلى الانعزال الرقمي بدلاً من المشاركة الفعالة في القضايا السياسية والاجتماعية.

والهدف قد يكون هو تقليل التأثير الشبابي في الشأن العام عبر تشجيع تبعية رقمية تعزز العزلة وتكسر الروابط الجماعية والقيم المجتمعية. ومن الممكن أن يتطور هذا القطاع ليُستخدم كآلية تدفع الشباب إلى الانسحاب من العمل السياسي والاجتماعي والنقاش العمومي حول القضايا الراهنة، كما أنه يمكن أن يوظف كأداة غير مباشرة لتقييد الاحتجاجات الشعبية والتحكم في الفضاء العام، بما يسهم في تفادي تكرار تجارب حركات احتجاجية مثل حركة 20 فبراير التي شهدها المغرب في سنة 2011، وحملة المقاطعة الشعبية لمنتجات بعض الشركات الكبرى، التي انطلقت في سنة 2018 بهدف الضغط على هذه الشركات لخفض أسعار منتجاتها أو تحسين جودتها.

تلعب هذه الصناعة، بجاذبيتها الرقمية والتفاعلية، دورًا في تشتيت انتباه الشباب وتوجيه طاقاتهم إلى عوالم افتراضية، مما يقلص فرص التحشيد والتنظيم الجماعي خارج المنصات الرقمية.

ومن خلال هذا الانشغال الافتراضي، تضعف قدرة الشباب على التفاعل المباشر مع الفعل السياسي والاحتجاجي، الأمر الذي يتيح للدولة، بشكل ضمني، التحكم في نبرة الطاقة الاجتماعية وتقليل الضغط الشعبي، وهو ما يفسر جزئيًا التوجه نحو توظيف الألعاب الإلكترونية ضمن سياسات التحكم الاجتماعي والحد من الفعل الاحتجاجي الفعلي لكون إن الوضعية الاجتماعية بالمغرب تشهد تزايدًا في التهميش والعزوف السياسي.

وبالتالي تصبح صناعة الألعاب الإلكترونية في هذا السياق أداة سلطوية غير مباشرة لتقليل تأثير الشباب في الفعل الجماعي والمشاركة في الحياة السياسية.

اختبار للسياسات العمومية

ختاما، يمكن القول بالرغم من هذه الإشكالات القائمة، لا يمكن إنكار الإمكانيات الكبيرة التي يحملها هذا القطاع على المستويين الاقتصادي والثقافي.

إلا أن تحقيق الأثر الإيجابي يتطلب تبني سياسات عمومية متوازنة، تستثمر في تطوير المهارات الرقمية للشباب، وتُدمج صناعة الألعاب ضمن منظومة أوسع تشمل التعليم، البحث العلمي، والابتكار التكنولوجي، بحيث لا ينبغي أن يُختزل الهدف في إنتاج الألعاب فقط، بل يجب أن يمتد نحو تأسيس منظومة رقمية وطنية تُدرّس علوم البرمجة، وتُعزز ريادة الأعمال، وتُراكم الخبرات في مجالات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي وتحليل البيانات.

كما يجب ربط هذه الدينامية ببرامج توعوية تهدف إلى بناء وعي نقدي لدى الأجيال الصاعدة بخصوص الاستهلاك الرقمي وتأثيره على الذات والمجتمع. ويمكن أيضًا استخدام هذا القطاع كآلية لإدماج الفئات المنقطعة عن الدراسة، أو الشباب الذين يفتقرون إلى المهارات الاجتماعية، من خلال توجيههم إلى مجالات رقمية قادرة على تطوير كفاءاتهم وتحقيق اندماجهم المهني والاجتماعي.

فالاستثمار في صناعة الألعاب الإلكترونية في المغرب تعد أكثر من مجرد رهان اقتصادي؛ إنه اختبار حقيقي لقدرة السياسات العمومية على بناء نموذج تنموي بديل قائم على المعرفة، والابتكار، والإبداع المحلي. اقتصاد لا يكتفي بتحقيق الأرباح، بل يُعزّز التنمية المستدامة، ويُطوّر رأس المال البشري، ويحافظ على الهوية الثقافية.

ولتحقيق هذا التحول، ينبغي بلورة رؤية استراتيجية متكاملة، تدعم المواهب، وتعزّز البحث العلمي، وتُطوّر البنية التحتية الرقمية، وتخلق بيئة حاضنة للابتكار وريادة الأعمال، تُراعي في الآن ذاته المعايير النفسية والاجتماعية للأفراد.

بهذه الرؤية، يمكن للمغرب أن يتحوّل إلى مركز إقليمي رائد في صناعة الألعاب الإلكترونية، محافظًا على توازن دقيق بين الاقتصاد، الثقافة، الترفيه، والصحة النفسية.