story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أَطلالُ الصِّحافَة

ص ص

أحاول هذه الأيام أن أقرأ كتاب أحمد بوز عن “سنوات الصحافة“، وأحاول في الوقت نفسه أن أتعامل مع شعور خانق بالحسرة.

كل صفحة يعود فيها الرجل إلى كواليس “الصحيفة” و”لوجورنال” ترميني أنا أيضًا إلى بداياتي في “المساء” و”أخبار اليوم”، ثم تقذفني بقسوة إلى حاضر لا يشبه شيئا مما حلمنا به ونحن ندخل هذه المهنة مقتنعين أنها، رغم هشاشتها، يمكن أن تكون فعلا سلطة رابعة.

جيل بوز اشتغل في أسبوعيات تعيش تحت التهديد الدائم بالمنع والحجز والغرامات، لكن كان هناك حدّ أدنى من البداهة: الصحافة قضية، والصحافي فاعل سياسي بمعناه النبيل، جزء من صراع مجتمع مع استبداد مزمن.

كنا نحن الجيل التالي نتسلّم مفاتيح غرف الأخبار في اليوميات المستقلة واسعة الانتشار، ونتلقّى وصية واحدة واضحة:
“يمكنك أن تجلس مع السلطة، أن تحضر “بريفينغات”، أن تسمع وتُسمِع… لكنك تبقى صحافيا أوّلا وأخيرا. تقترب بما يكفي لتحصل على المعلومة، وتبتعد بما يكفي لتحافظ على استقلاليتك”.

اليوم، وأنت تنظر حولك، تشعر أن هذه البداهة نفسها تكسّرت.

لم تعد هناك “غرفة أخبار” بالمعنى الذي يحكي عنه بوز؛ لم تعد هناك معارك على صياغة العنوان، ولا أسئلة جماعية من نوع: ما مسؤولية الجريدة إذا نشرت شهادة مسؤول نافذ؟ أو إذا كشفت لقاء في بيت رجل أعمال مقرّب من السلطة؟

صار السؤال اليوم أكثر فجاجة وأقل نبلا: من دفع ثمن هذا التقرير؟ كيف نُرضي المعلِن؟ كيف نصنع “الترند”؟ وكيف ينجو كل واحد منا فرديا في مهنة لم تعد تضمن لا أجرا ولا حماية ولا معنى رمزيا؟

المفارقة أن هذا الإحساس الشخصي بالحسرة تزامن، أمس فقط، مع سماعي لكلمة أستاذتي الأولى في الصحافة ورئيسة ال”هاكا”، لطيفة أخرباش، في ندوة حول محاربة الأخبار الزائفة.

وهي تتحدث من موقع “حَكيمة” الإعلام السمعي البصري، قدّمت تشخيصا باردا لما نعيشه جميعا بحرارة وارتباك.

أخرباش قالت ما خلاصته: الأخبار الزائفة ليست المشكلة، بل العرضُ الذي يطفو على السطح لمشكلة أعمق؛ خلل بنيوي ينخر منظومتنا الإعلامية. الفضاء الذي كان، نظريا، تحت وساطة الصحافة المهنية، صار اليوم تحت هيمنة منصات رقمية خاصة، تُقرّر ما نرى وما لا نرى، وفق خوارزميات تجارية لا علاقة لها بالمصلحة العامة ولا بحق المواطنين في إعلام موثوق ومتعدد.

قدّمت أخرباش أرقاما لا تحتاج إلى تعليق:
جزء كبير من المغاربة اليوم يلجون إلى الأخبار عبر المنصات الرقمية؛ ثلثهم تقريبا يعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي مصدرا للخبر، فيما تتراجع الصحافة الإلكترونية والورقية والإذاعة إلى هوامش ضيقة. وعلى الأنترنيت، أضحى يوتيوب وفيسبوك البوابة الأساسية للأخبار بالنسبة لغالبية المستعملين.

هذه الإحصائيات ليست مجرد أرقام جافة؛ إنها شهادة رسمية على ما نعيشه:
الصحافة، كما عرفناها، لم تعد هي الوسيط الأول بين المجتمع والعالم، بل صارت مجرد فاعل من بين آخرين في بحرٍ رقميّ واسع، تسبح فيه كل الأشياء مختلطة: خبر، إشاعة، دعاية، تفاهة، تحريض، دبلجة ركيكة لمحتوى أجنبي، و”ستوري” مؤثر يبيع كل شيء.

أخرباش ذهبت أبعد من ذلك: تراجع وساطة الصحافة المهنية يعني تراجع الضمانات التحريرية الأساسية، أي التحقق من الوقائع، وترتيب الأخبار بحسب أهميتها، ووضعها في سياقها.

مع هذا التراجع، يرتفع منسوب هشاشة الجمهور أمام التضليل واستراتيجيات التأثير، بما فيها تلك القادمة من الخارج.

وأنا أسمع هذا الكلام من سيّدة كانت أول من أجريت معه استجوابا صحافيا في مساري المهني، بطلب من المرحوم عبد الجبار السحيمي وأنا متدرّب في صحيفة “العلَم” بعد سنتي الأولى في دراسة الصحافة، كرّست جزءا مهما من مسارها لتدريس وتقنين الإعلام، كنت أقول في نفسي: هذا بالضبط ما نكتبه ونصرخ به منذ سنوات، لكن من زاوية أخرى؛ زاوية من عاشوا من الداخل انهيار البيت الذي يفترض أن يحمي هذا المجتمع من التضليل: الصحافة.

في زمن أحمد بوز، كانت المواجهة مع السلطة تدور حول “منطقة محرّمة”: الملك، الجيش، الصحراء، الدين…

أما اليوم، وفي جل وسائل الإعلام، فقد انتقلنا من صراع مع دولة تخاف من الكلمة، إلى صراع مع سوق لا تعترف أصلا بمعنى الكلمة، فيما الدولة تتفرّج علينا باسمة ومتشفّية.

ومع ذلك، هناك شيء يُراد له أن يُطمس. جيل بوز لم يكن يعمل في فردوس ديمقراطي. كان هناك قمع ومحاكمات وغرامات، وبعض هذه الغرامات دمّر مؤسسات كاملة. نحن في “المساء” و”أخبار اليوم” دفعنا بدورنا ثمنا غاليا.

لكن، وسط ذلك كله، كان هناك حد أدنى من المعنى: يوجد خصم اسمه “السلطة”، نختلف معه لكننا نعرفه ويفهمنا، ويمكن أن نلتقيه في “بريفينغ” أو في حوار تلفزيوني يسيّره طيّب اذكر مصطفى العلوي، أو في قاعة محكمة.

اليوم، في الجزء الأكبر من المشهد، لا يوجد خصم محدّد؛ بل يوجد خواء.

لا “بريفينغ” ولا شرح ولا تواصل مؤسساتي محترم.

وذلك التاجر الجشع الذي يخلو قلبه من كل تقدير للصحافة بات هو المسؤول العمومي نفسه. هو المُعلن وهو المصدر المفترض وهو المدبّر العمومي.

الصحافي الجاد يُترَك لمصادره الهشة، ويُهدَّد إذا اقترب من الصناديق السوداء، بينما تُفتح كل الأبواب لمرتزقة الفضاء الرقمي؛ يُستعملون حين يُحتاج إليهم، ثم يُرمى بهم حين تنتهي الصلاحية.

حين تقول رئيسة ال”هاكا” إن مواجهة التضليل تحتاج إلى سياسة عمومية منسّقة، تدعم الإعلام المهني، وتعالج هشاشته الاقتصادية والمهنية والأخلاقية، وتُصلح سوق الإشهار المختل، وتُعمّم التربية الإعلامية… فهي في الواقع تضع أمامنا خرائط طريق ممكنة للخروج من المأزق.

لكن ما ينقص، في تقديري، هو الاعتراف بالمأزق نفسه: الاعتراف بأن البلد تخلّى، في لحظة ما، عن استثمار إستراتيجي اسمه “صحافة حرة ومسؤولة”، وأن الثمن يُدفع اليوم على شكل هشاشة شاملـة. هشاشة رأي عام، وهشاشة ثقة، وهشاشة مناعة أمام كل شائعة وأي سردية معادية.

نحن جيل انتقالي غريب. عشنا زمن اليوميات التي تُربك الوزراء، وتفرض عناوينها على البرلمان وعلى صالونات السلطة.

ورأينا، في أقل من عقد، كيف جرى خنق “أخبار اليوم” حتى الموت، وكيف تراجعت “المساء” وتبدّلت، وكيف انكمشت الصحف الأخرى في “مربّعات آمنة”، بينما يجري تسليم المجال العام بالتدريج لمنصات لا تعترف بغير منطق المشاهدة والربح السريع.

لا أكتب هذا من موقع حنين أعمى إلى زمن مثالي لم يكن في الواقع مثاليا، بل من موقع شعور بسيط بالمسؤولية:
جيل أحمد بوز أدّى ما عليه حين ترك لنا قصصا وشهادات وكتبا من قبيل “سنوات الصحافة”.

ونحن، الجيل الذي عاش الانتقال من زمن الأسبوعيات الجريئة إلى زمن اليوميات القوية ثم إلى هذا الخراب الرقمي، علينا بدورنا أن نكتب وأن نشهد، وأن نقول إن ما ضاع لم يكن فقط “وظائف” و”مؤسسات”، بل ضاع معه جزء حيوي من قدرة هذا المجتمع على أن يرى نفسه في مرآة نظيفة.

كلام لطيفة أخرباش عن “الصمود الإعلامي” وضرورة “تحرّك عمومي منسّق” ليس خطابا تقنيا فقط؛ هو، في عمقه، اعتراف بأن تهميش الصحافة المهنية خطأ إستراتيجي، وأن ترك فضاء الخبر لتقرّره خوارزميات يوتيوب وفيسبوك مقامرة خطيرة بمجمل الحياة الديمقراطية.

سؤالنا نحن، أبناء هذه المهنة المعلّقة بين زمنين، بسيط وموجِع: إذا كانت الدولة تتحرّك اليوم متأخّرة لتنظيم الفوضى الرقمية، فمن سيتحرّك لإعادة بناء البيت؟

من سيهتم بإعادة الاعتبار للصحافة نفسها، قبل أن نصحو يوما فلا نجد حتى ما نتحسّر عليه، ولا كتبا مثل “سنوات الصحافة” تذكّرنا أن هذا البلد جرّب يوما أن يحلم عبر الصحافة؟