أين أخطأ “جيل زد 212″؟

تتراكم المؤشرات على انكفاء احتجاجات “جيل زد 212”. بمعطيات اللحظة، قد نكون بصدد بداية استنفاد أغراضها في الشارع. وهذا لا يمنع أن يُسجَّل أنها رَمَت حجراً في البركة التي ستعود إلى الركود، تماماً كتاريخنا الطويل مع الفرص المهدورة. (ما هذا التشاؤم؟!!).
الدولة في المغرب تَبْرع كثيراً في الإفلات من “الحساب”. بخِبرة القرون تحرّكت حتى تتمكّن من إعادة صياغة “طارئ” فرضه “جيل زد 212″، وفق أجندتها وإيقاعها. توسّلت آليات عدةً، لتحقيق الغرض: من المقاربة الأمنية الخشنة، إلى التواصل المؤسساتي الناعم.
أجندةٌ واحدةٌ تسود، وكل دينامية صاعدةٍ من المجتمع يجري التأنّي في النظر إليها، ليتمّ تالياً التعامل معها كقوسٍ يجب أن يُغلق، لنعود إلى زمن الدولة، لا زمن المجتمع. فالدولة لا تحبّ الشارع مجالاً للمفاوضة المجتمعية والسياسية.
ومع ذلك، عائدُ دينامية “جيل زد” لا يقاسُ، إلى الآن، بحجم من خرجوا إلى الشارع أو من سيخرجون، بل بما أحدثه من أثر سياسي ومؤسساتي، وإن كان ظرفياً. من تمظهراته خطابٌ ملكي أكّد على وجوب عدم الوقوع في التناقض بين مشاريع البنية التحتية الكبرى والبرامج الاجتماعية، في نوعٍ من الجواب غير المباشر على احتجاجات الشباب ضد الاختلال في ترتيب الأولويات.
كما يُلمس هذا الأثر في تحرك الحكومة لمحاولة التفسير والإيضاح والتماس “مزيدٍ من الوقت” في “الوقت بدل الضائع” من عمر ولايتها. مضافاً إلى ذلك اجتماعات اللجان البرلمانية وكل ذلك الصخب في النقاش حول الملفات التي فرضها الشارع أولوية.
فهل يجوز أن نحمّل دينامية “جيل زد 212” أكثر ممّا تتحمّل؟
إلى الآن، يجنحُ الباحثون والدارسون في العلوم الاجتماعية ذات الصلة إلى التريّث في إطلاق صفة “حركة اجتماعية” على احتجاجات “جيل زد 212″، ويحتاطون بشأن مستقبلها. شأنُنا نحن الصحافيين أننا أكثر استعجالا ولا وقت لدينا للانتظار حتى تكتمل عناصر الصورة للمساهمة في النقاش العمومي، لهذا أكتب عن مؤشرات انكفاء، وفق معطيات اللحظة، في محاولة للفهم، واستخلاص الدرس، بكل التنسيب الممكن.
ابتداءً، المغاربة لم يكتشفوا الاحتجاج والشارع في 2025. للشعب نزوعٌ مستمرة وملاحقةٌ حثيثة للديمقراطية والكرامة. شعبٌ بسجلٍ طويل من الشهداء والمعتقلين، والمظلومين. الدولة نفسها اعترفت بسجلّها الأسود في حقوق الإنسان. ومحطة الإنصاف والمصالحة ذروة الاعتراف، ولحظة شديدة التكثيف لهذا الطموح الشعبي لدولة المواطنين.
احتجاج “جيل زد 212” ضمن هذا المسار. لهم خصوصيات معلومة، لكنهم يتقاطعون مع ديناميات أخرى في مطلب الكرامة.
بدون تقديس، يحقّ أن نسائل الآن هذه الحركة، لا بغرض التثبيط، مادام ذلك ليس من توجّهاتِ الكاتب المشغولِ باستمرار بدعم مساحات الحرية والكرامة.
القول بانكفاء احتجاجات “جيل زد 212” لا يستبطن أي معنى للتبخيس والتنقيص. لكن العائد إلى الآن قليلٌ. وتتظافر عوامل كثيرة لتحجيم تأثير هذه الحركة.
موضوعياً، سعت المقاربة الأمنية منذ الأيام الأولى إلى فرض نوع من السيطرة على الشارع، حيث قوبل احتجاج الشباب بتضييق أثّر على زخم الاحتجاجات، حتى صار لهذه الدينامية معتقلون لا يزال بعضهم مسجوناً، وآخرون يُتابعون في حالة سراح. أيضا، أعمال العنف التي اندلعت في عدد من المناطق أضرّت بزخمها، وحرّفت النقاش في بواكير الاحتجاج إلى موضوعات الاستقرار والسلمية، بدل الصحة والتعليم والفساد.
وإنّ إحجام فئات في المجتمع عن مساندة ودعمٍ دينامية “جيل زد 212” حجّم تأثيرها السياسي. ولعل هذا من نتائج انغلاق الحركة على نفسها واحتراسِ مطلقي الاحتجاج من تقبّل تحالف ميداني مع حركات فاعلة في الشارع. في المقابل، لم تُبادر قوى معروفة بنزوعها الاحتجاجية إلى التقاطع مع “جيل زد 212” باعتبار “الغموض” الذي يحيط بميلادها وتطوّر خطابها، وحتى سقف مطالبها، ولتجنّب وصْمِها بـ”الركوب” الذي رفضه الشباب أنفسهم.
وعلى أساس هذه الفكرة، نمرّ إلى أسباب ذاتية ساهمت في الانكفاء، حيث إن عزل الشباب أنفسهم عن باقي الفاعلين المجتمعيين، من أحزاب وتنظيمات ومؤسسات مدنية جادّة ومواطِنة، حرَمَهم من حزام سياسي ومن موارد بشرية وخبرة في تدبير الأشكال الاحتجاجية. فضلا عن أن غياب وجوه قيادية قادرة على إيصال صوت “جيل زد 212” بوضوح، دون الحاجة إلى وسائط أو متحدثين سرعان ما يجري “التبرؤ” منهم، أضرّ بالحركة. وباستمرار يُلحظ، لدى باحثي علم الاجتماع خفوتٌ سريع للحركات التي تنبثق من العالم الرقمي إن لم تُنتِج زعامةً، فردية أو جماعية.
ولئن كان أمر عدم بروز زعامات مُتَفَهّماً في البداية، فإنه مع تراكم زخم الحركة وتوسّع النقاش بشأنها، كان يتوجّب، بدل انغلاقها في غرف دردشة، أن تستوعب ضرورة بروز وجوه تمثيل عنها، للتحدث باسمها، وتوضيح فكرتها، بما “يُؤنْسِن” تواصلها مع فئات أخرى من المجتمع لا تملك ولوجاً إلى منصاتها، ويُشيع حالة من الاطمئنان لشعاراتها وغاياتها.
ومما ظهر أيضا، وحجّم دور الحركة، محدودية الخبرة السياسية، خاصة على صعيد إنضاج “الملف المطلبي”، الذي انطلق مباشراً وواضحا ومُقنعاً، لكنه ما لبِثَ أن ارتبك بين الاجتماعي والسياسي. ونقصُ الخبرة تأكّد أيضا في رفع مطالب “غير متناسِبة” مع زخم الاحتجاج. مضافاً إلى ذلك سقف التوقّع من الدولة وانتظارُ جواب آني، في ظل عدم إدراكٍ كافٍ لكيفية اشتغال قلب السلطة، أي الملكية، التي توجّه لها خطاب “جيل زد 212″ بشكل مباشر. ولا يُلام الشباب في هذا الأمر، مادامت سَرَت في المجتمع حالة ترقّب و”أملٍ” بشأن ما سيقوله الملك خلال افتتاحه السنة التشريعية الأخيرة لمجلس النواب يوم 10 أكتوبر، وتوقُّع إجراءٍ أو تعقيب صريح، قبل أن ينتهي الخطاب دون تعليق مباشر، بما أكّد أن زمن الدولة لا يكون دائماً هو زمن الشارع، من منظور ترتيب الأولويات، وحتى الجزاءات.
كل هذه العوامل، تُصعّب مهمة دينامية “جيل زد 212” في إحداث فرق جوهري، كما تُسهّل مهمة احتوائها وتحويلها بالتدريج إلى أشكال احتجاج روتينية تُستهلك في التظاهر اليومي، ثم الأسبوعي، قبل التلاشي.
قصارى القول
ما يعني الآن، هو الوعي الصميم بأن جيلاً كان يُعتقد أنه يعيش “موت السياسة” فاجأ الجميع بتحويل نقاشاته من العالم الرقمي إلى الشارع، بل وأحدث رجّةً لا يُعلم على نحو نهائي كيف ستؤثر في خطط الدولة، وقد صوّبت الدينامية مباشرةً على رئيس الحكومة عزيز أخنوش، بما يمثله من عنوان لمرحلة تغوّل المال على السياسة، والإفساد الصريح لمضمون الانتخاب، والتشنيع بمؤسسة رئاسة الحكومة التي حوّلت البرلمان إلى منصة للدفاع عن تضارب المصالح وتفريخ “قوانين مصلحة الفئة”، والمسؤوليات إلى فرصة للاغتناء.
ومع احتمال بقاء شباب “جيل زد 212” في الشارع، لا يمكن استبعاد التحاق فئات أخرى بديناميتهم إن تغيّرت معطياتٌ، فتصاعد الغضب الشعبي يجد أسبابه في السياسات العمومية التي تعمّق الفوارق الاجتماعية والمجالية. والعوامل التي أدت إلى خروج الاحتجاجات، حتى قبل “جيل زد”، لا تزال قائمة، واستمرارها يوفّر مُغَذِّياتٍ للشعور بالميز، وللمطالبة بالحق في الاستفادة من عوائد التنمية.
يُفترض أن يجري تعديلٌ في ترتيب الأولويات. ولا أجد نفسي في صفّ التصويب على استعداد المغرب لاستحقاقات كبرى، من قبيل كأس العالم، وكل تلك التحضيرات التي تنتج بنيةً تحتيةً مطلوبةً ومرغوبةً، لكن هناك أيضا ملفات لا تقلّ أهمية، هي من منظور المحتجين أبقى وأولى. لا معنى في مغرب 2025 لبقاء مستشفيات عمومية على حالتها مزرية تموت فيها الحوامل جملةً، كما لا معنى لكل هذه النكبات في تعليم لم يغادر التجريب منذ 70 عاما من الاستقلال. وقبل ذلك وبعده، لا معنى لمحاكمة شبابٍ من “جيل زد 212” بسبب قميص يحمل شعار (الصحة والتعليم حق للجميع) و(فلسطين حرة). الحريات مهمة أيضاً. مهمة جداً.