story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أوجار.. الانغماسي الأنيق

ص ص

استوقفتني كثيرا مداخلة القيادي في التجمع الوطني للأحرار، محمد أوجار، في الندوة التي احتضنتها كلية الحقوق السويسي بجامعة محمد الخامس، يوم الأربعاء 3 دجنبر الحالي، والتي انتقد فيها سلطة الولاة والعمال.

أوجار ليس اسما عابرا في المشهد الحزبي، بل واحد من وجوه الأحرار التي تحظى باحترام واسع، بما راكمه من تجربة دبلوماسية وحقوقية وسياسية. لكن احترام الأشخاص لا يمنع من قراءة مواقفهم في سياقها، خاصة عندما تتكرّر بنفس الموسيقى وإن تغيّرت الكلمات.

وأبدأ محاولة الاستقراء هذه بسؤال بسيط: من يطلق الرصاص السياسي الأوّل داخل حقلٍ ملغّم؟ الجواب أنه ليس بالضرورة من يملك القرار، بل غالبا من يُكلَّف بدور “كاسح الألغام”، الذي يختبر الأرض بأقدامه، ويفتح الطريق أمام آخرين يمشون بعدها بأمان.

قبل سنة تقريبا، خرج أوجار في ندوة مشابهة ليشنّ هجوما مباشرا على تركيبة مؤسسات الحكامة، معتبرا أنها واقعة تحت “هيمنة يسارية”، ومشيرا إلى رؤساء المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهيئة النزاهة، وغيرها من المؤسسات التي كان يشغلها أحمد رضا الشامي ومحمد بشير الراشدي وآخرون.

يومها قدّم الرجل ما يشبه “مرافعة” ضد تركيز هذه المناصب في يد تيار واحد. وبعد أشهر قليلة، وجدنا أنفسنا أمام قرار ملكي يعفي بعض هؤلاء، ويعيّن وجوها جديدة على رأس المؤسسات نفسها.

لا أزعم هنا وجود علاقة سببية مباشرة، لكن يصعب على من يتابع المشهد أن يتجاهل هذا التزامن بين “الإنذار” الذي أطلقه أوجار، من موقعه القريب من أخنوش، وبين إعادة رسم خريطة مؤسسات الحكامة، في اتجاه يقلّص من حضور الأصوات التي أزعجت، في لحظة ما، رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش.

يعود اليوم محمد أوجار، من باب ندوة أكاديمية منظَّمة من طرف فريق البحث في الأداء السياسي والدستوري وماستر الدراسات الدستورية والسياسية والإدارية بكلية السويسي، ليضع إصبعه على “الدولة العميقة”، وعلى “البنية الإدارية التي تعاكس المنتخبين”، وعلى سلطة الولاة والعمال التي تحاصر رؤساء الجماعات والجهات.

كلام كبير وكلمات “غليظة”، يصعب أن تُسجَّل باعتبارها مجرد تأملات فكرية لسياسي متقاعد، وهي تصدر عن عضو في المكتب السياسي للحزب الأول في الأغلبية الحكومية. حين يخرج قيادي بهذا الحجم ليقول علنا إن الجماعات والجهات تُدار فعليا من طرف ممثلي وزارة الداخلية، وإنه “لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية بسرعتين، واحدة في الأقاليم الجنوبية بحكم محلي وتدبير جديد، وأخرى في باقي الجهات حيث لا يستطيع رئيس الجهة حمل قلم إلا بعد استشارة الوالي”، فنحن أمام رسالة سياسية مشفّرة أكثر مما نحن أمام تمرين نظري في مدرّج جامعي، وعنوان هذه الرسالة واضح: وزارة الداخلية.

ما يجعل هذه الرسالة أكثر وضوحا هو سياقها المالي والسياسي. نحن أمام مشروع قانون مالية 2026، وبنده الخاص بـ”صندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية” الذي أعيدت تسميته إلى “صندوق التنمية الترابية المندمجة”، دون أن يكلّف المشرّع نفسه هذه المرّة عناء تحديد الآمر بالصرف فيه، كما فعل سنة 2016 حين نُزعت هذه الصفة من رئيس الحكومة وأسندت إلى وزير الفلاحة، عزيز أخنوش آنذاك.

الصندوق، الذي يتوفر اليوم على غلاف مالي ضخم موزع بين اعتمادات أداء واعتمادات التزام تمتد إلى سنة 2027، يراد له أن يكون الآلية المالية الكبرى لتنزيل الجيل الجديد من برامج التنمية الترابية التي أمر بها الملك في خطاب العرش الأخير. وبينما تصدر وزارة الداخلية مذكرتها الشهيرة رقم 1300، وتطلق عبر الولاة والعمال مشاورات شعبية في الأقاليم لصياغة هذه البرامج، مقدِّمة نفسها باعتبارها صاحب اليد العليا في هندسة التنمية الترابية المندمجة؛ يخرج قيادي في حزب رئيس الحكومة ليذكّر بأن “المنتخبين محاصرون”، وبأن “السلطة الفعلية في يد ممثلي وزارة الداخلية”.

إذا وضعنا هذه القطع جنبا إلى جنب، تصبح الصورة أوضح: صندوق ضخم في سنة انتخابية ساخنة، مرتبط أساسا بالعالم القروي والمناطق الهشة؛ ذاكرة قريبة تقول إن تغيير الآمر بالصرف فيه سبق أن شكّل محور مواجهة شرسة بين رئيس حكومة ووزير قوي اسمه عزيز أخنوش سنة 2016؛ وزارة داخلية تتحرك بسرعة لتخطط وتجمع وتعلن؛ وحزب أغلبي يشعر بأن أداة ضخمة للتأثير في الخريطة الانتخابية قد تنزلق من يده نحو بيت عبد الوافي الفتيت. في هذه اللحظة بالذات، يخرج محمد أوجار ليتحدث عن “الدولة العميقة” و”السلطة الحقيقية للولاة والعمال” و”الحدود الضيقة لاختصاصات المنتخبين”. من الصعب أن نعتبر كل هذا مجرد صدفة فكرية.

حين كان أوجار يهاجم، قبل سنة، رؤساء مؤسسات الحكامة المحسوبين على اليسار ويتهمهم بجلد صورة البلاد دوليا، كان يدافع ظاهريا عن “سمعة الدولة”، لكن النتيجة السياسية المباشرة كانت التخلص من أصوات أزعجت الحكومة في ملفات محاربة الفساد والتقارير الدولية.

واليوم يلبس الرجل قميص “المدافع عن المنتخبين” في مواجهة “جبروت” الولاة والعمال، لكن المعركة الحقيقية تدور حول من يمسك خيوط صندوق التنمية الترابية، ومن يوزع المشاريع والاعتمادات، ومن يملك، في النهاية، مفاتيح إعادة تشكيل الخريطة الانتخابية، خاصة في العالم القروي الذي ظل دائما خزانا حاسما في حسم نتائج الاقتراع.

إذا كان حزب التجمع الوطني للأحرار يريد إقناعنا بأنه يواجه “الدولة العميقة” دفاعا عن الديمقراطية، فعليه أن يبدأ ببيته الداخلي، وأن يشرح للمغاربة كيف ينسجم هذا الخطاب مع تحكّمه في مفاصل أساسية من الاقتصاد والإعلام، ومع استعماله المكثّف لأدوات الدولة في معاركه داخل الحقل الصحافي والاقتصادي، ومع استمرار صور السياسة التي تربط بين المال والسلطة بشكل يطرح أكثر من علامة استفهام.

لا يكفي أن نندّد بتغوّل الإدارة حين يتعلق الأمر باختصاص مالي حساس، ثم نبارك اليد الثقيلة للدولة نفسها عندما تشتغل لصالحنا في مجالات أخرى، أولها الممارسة “الإباحية” لتضارب المصالح.

في النهاية، قد يقبل المواطن أن يلعب بعض السياسيين دور “الانغماسيين” في حروب خفية لا يرى منها إلا تصريحات نارية وندوات أنيقة، لكن ما لن يقبله طويلا هو أن يبقى صندوق بهذه الرمزية تحت رحمة شد الحبل بين الداخلية ورئيس الحكومة، بينما القرى والجبال في انتظار طريق وماء ومدرسة ومستشفى.

إذا كان محمد أوجار قد اختار أن يفتح النار باسم حزبه على “الدولة العميقة”، فالمطلوب اليوم ليس التصفيق لشجاعته الخطابية، بل أن نرى، عند حسم أمر هذا الصندوق، هل كان انغماسيا في خدمة ديمقراطية أقوى، أم مجرد كاسح ألغام يمهّد الطريق لهيمنة سياسية من نوع آخر.

هنا فقط سنعرف لأي جهة استقرت رصاصة أوجار الأنيق.