story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

أنقذوا السودان!

ص ص

في قلب بلاد السودان، حيث أهل الطيبة والوداعة والأرض الخصبة المعطاءة، تشتعل اليوم حرب تبتلع وطنا بأكمله اسمه السودان.

بلد النيلين، الذي أنجب الطيب صالح، وغناء محمد وردي، وذاكرة المهدية، وخرطوم القمم العربية، صار اليوم مختبرا لأسوأ ما يمكن أن تفعله الحروب بالأوطان: خراب بلا حدود، ودم بلا صوت، وعالم يتفرج.

ما يجري في السودان ليس صراعا عاديا بين جنرالين تهافتا على السلطة، بل مأساة إنسانية وأخلاقية كبرى. مدينة الفاشر، عاصمة دارفور، تحولت خلال أيام إلى مقبرة مفتوحة. تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة تتحدث عن آلاف القتلى والمفقودين والمغتصبات والمحرومين من الماء والغذاء والدواء.

قرى بأكملها تُباد أمام عدسات العالم، لا لذنب سوى انتماء سكانها إلى قبيلة بعينها أو لون يختلف عن لون جلاديهم. يُقتل الناس لأنهم خُلقوا في المكان الخطأ من خريطة غدت مرسومة بالدم. يُحرق المستشفى على جرحاه، وتُقصف سيارات الإسعاف، ويُمنع الهلال الأحمر من دفن الجثث المتحللة تحت الشمس، ثم يُقال للعالم بوقاحة مروّعة: لا تتدخّلوا، فهذه “مسألةٌ سيادية”.

الحقيقة أن ما يحدث في السودان شأننا جميعا. شأن إنساني قبل أن يكون سياسيا، وعربي قبل أن يكون إفريقيا. إنه مرآة عاكسة لما آل إليه حال النظام الإقليمي العربي الذي كان، على هشاشته وعيوبه، يملك على الأقل قدرا من التماسك يمنع انزلاق الدول إلى هذا الجحيم المفتوح.

لقد كان للجامعة العربية، يوما ما، بعض من رمزية تتيح الحد الأدنى من التنسيق أو الوساطة. أما اليوم، فنتفرج جميعا على تدمير الخرطوم كما تفرجنا من قبل على طرابلس ودمشق وصنعاء، وكأن الخراب قدر مكتوب على مدننا بالترتيب الأبجدي.

في السودان، كما في غيره، لم تعد الحرب حربا أهلية فقط، بل صراع مصالح دولية وإقليمية بأيد محلية. السلاح يأتي من عواصم بعيدة، والأموال من جيوب النفط، والمعلومات من أقمار التجسس. أما الدم فمصدره واحد: إنسان عربي إفريقي بسيط أراد أن يعيش.

الذين يتحدثون عن السودان اليوم يكررون أسطوانة «الجنرالين المتصارعين»، متناسين أن المأساة أعمق بكثير: إنها نتيجة سقوط فكرة الدولة نفسها في العالم العربي. دول فُككت باسم الديمقراطية، وأخرى خُنقت باسم الاستقرار، وفي الحالتين النتيجة واحدة: مجتمع بلا حماية، وحدود بلا سيادة، وكرامة بشرية تُدهس تحت أقدام الميليشيات والطائرات المسيّرة.

لا يمكن أن نكتفي بدور المتفرج الحزين أمام هذه المأساة. نحن الذين نؤمن بأن إفريقيا امتدادنا الطبيعي وفضاؤنا الاستراتيجي، علينا أن نسمّي الأشياء بأسمائها: ما يجري في السودان جريمة ضد الإنسانية، ووصمة في جبين القارة كلّها. ليس لأننا نملك حلولا سحرية، بل لأن الصمت صار نوعا من التواطؤ.

النظام الإقليمي العربي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية مات سريريا منذ سقوط بغداد سنة 2003، ودفن فعليا مع تفكك ليبيا وسوريا واليمن. وما نراه اليوم في السودان ليس سوى التعفن الأخير لجثة هذا النظام. كل دولة صارت تبحث عن خلاصها الفردي، وعن تحالف خاصّ أو اتفاق منفصل أو «وساطة مربحة». لكن الأوطان لا تُنقذ فرادى، كما لا يُطفأ الحريق بالأنانيات الصغيرة.

ما تحتاجه منطقتنا اليوم ليس بيانات تنديد ولا مؤتمرات طوارئ، بل تحتاج إرادة لتأسيس نظام إقليمي جديد، عقلاني وإنساني، يضع الإنسان قبل الكرسي والسيادة قبل المصالح العابرة. نظامٌ لا يُدار من الخارج ولا يتغذى من الأحقاد القديمة. فإما أن نعيد بناء منظومة عربية-إفريقية قادرة على حماية شعوبها من الحروب والخراب، أو سنكتشف متأخرين أننا كلنا سودان بطريقة ما.

من الخرطوم إلى غزة إلى صنعاء وطرابلس، تتشابه الجراح وتتبدّل الأسماء. وحين نقول اليوم «أنقذوا السودان»، فنحن في الحقيقة نقول: أنقذوا ما تبقّى من إنسانيتنا. فالسودان ليس بلدا بعيدا، بل مرآة نرى فيها أنفسنا بعد أن انهارت آخر أوهامنا عن وطن عربي واحد وأمن جماعي.

نعم، السودان يحترق. لكننا نحن الذين نحترق معه، ضميرا ومصيرا ومستقبلا. ولن يُطفأ هذا الحريق إلا حين نستيقظ من سبات التجزئة ونبني معا نظاما إقليميا جديدا، يؤمن أن كرامة الإنسان ليست شأنا داخليا، وأن الدم العربي لا يجوز أن يراق بصمت عربي.