أخنوش في “محكمة المؤسسات”

بعد سنوات من بلاغات “القطيع بخير”، تأكد أنه لم يعد بخير، وجاءت رسالة الملك محمد السادس، في 26 فبراير 2025، التي تهيب بعدم ذبح الأضاحي، لتكون الشاهد على حالة مزرية لقطيع يوشك على “الإبادة”. أما قرار الملك، في المجلس الوزاري ليوم الاثنين 12 ماي الجاري، بشأن الماشية، فكان بحكم الإدانة للسياسات الحكومية. كان قرارا حاسماً في التعامل مع كثير من الهدر في قطاع الفلاحة الذي امتدّ لأزيد من 17 سنة، منذ تولّى عزيز أخنوش وزارة الفلاحة في 15 أكتوبر 2007، قبل أن “يُفوِّت” الوزارة، حين أصبح رئيس حكومة (10 شتنبر 2021)، للكاتب العام لوزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات (بين 2013 و2021) المقرب منه محمد صديقي، ثم تعيين الوزير الحالي أحمد البواري (رئيس الهيئة الوطنية للمهندسين التجمعيين) في 23 أكتوبر 2024.
أصدر الملك “بقصد الحرص على أن تكون عملية إعادة تكوين القطيع ناجحة على جميع المستويات، بكل مهنية، ووفقا لمعايير موضوعية”، قراره بأن يوكل تأطير عملية تدبير الدعم إلى “لجان تشرف عليها السلطات المحلية”.
معنى هذا الكلام أن عملية تدبير الدعم نُقلت إلى وزارة الداخلية فعلياً، لأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد فشلٍ امتدّ سنوات على يد من يعتقد أن تسيير الشأن العام شبيهٌ بإدارة استثمار خاص، وأن المواطنين زبناء لدى وكالة، وأن الوطن شركة عائلية، وأن ميزانية الدولة غنيمة. القرار خطوةٌ تاليةٌ ومكمّلة للرسالة الملكية التي أهابت بعدم إقامة شعيرة ذبح الأضحية.
ولئن كان مضمون بلاغ الناطق باسم القصر الملكي قد حدد هدف القرار بـ”إعادة تكوين القطيع ناجحة على جميع المستويات”، وحدّد المعيار عبر عملية “بكل مهنية، ووفقا لمعايير موضوعية”، فإنه باعتماد أداة التنفيذ ( لجان تشرف عليها السلطات المحلية) يكون قد سحب الملف من وزارة الفلاحة إلى الداخلية التي يجوز القول إنها “وزارة فوق حكومية”.
المشكلة واضحة وتتجاوز آثار الجفاف (التي لا يمكن إنكارها)، إلى سياسات أنتجت الفشل، وأعطاب “تدبير الدعم” التي حامت حولها شبهات فساد، بحيث صرفت الحكومة ملايير الدراهم قبل أن تحصد الخسارات بأبعاد متعدد: فشل في تأمين اللحوم بأسعار معقولة، وفشل في حماية الثروة الحيوانية التي أوشكت على الهلاك.
القرار، فضلا عن أنه يحمل معاني التوبيخ، هو عملية تصحيحية هادئة، من داخل مؤسسات الدولة، بإرادة ملكية. ولا أحد يريد أن يكون في مكان عزيز أخنوش وهو يتلقى “حكم إدانة” بهذا الثقل، والذي يعني شهادةَ فشل ذريع لسياساته على امتداد أكثر من 17 عاماً على رأس وزارة الفلاحة مباشرة، أو في منصب رئيس حكومة.إن القرار حكمٌ قاسٍ في “محكمة المؤسسات” لسياسات الدعم التي تبيّن أنها فُصّلت على مقاس المحظوظين الذين استفادوا، وفق وثائق، من 13 مليار درهم شملت إعفاءات من الرسوم الجمركية، وتحمّل الدولة للضريبة على القيمة المضافة عند استيراد المواشي، إضافة إلى دعم مباشر لاستيراد الأغنام الموجهة للذبح في عيد الأضحى خلال سنتي 2023 و2024.
والطامة الأكبر كانت حديثَ وزير التجارة والصناعة الاستقلالي رياض مزور ( والعهدة عليه) عن أن عدد المستوردين المستفيدين من كل هذه الملايير لا يتجاوز 18 “محظوظاً”، وهو أمر يصيب بالذهول، ويفتح الباب للسؤال عمن هؤلاء، وما ارتباطاتهم السياسية، وكيف استفادوا من كل هذا الدعم السخي جداً. والأشنع أنه رغم استفادتهم من “عطاءات” حكومة أخنوش لم يكن لدعمهم أثرٌ، بل تسبّبوا في اشتعال الأسعار، وتفشّي الندرة، حتى صُدمنا هذا العام بحقيقة قرب هلاك القطيع الوطني للماشية إلى درجة حديث بلاغ القصر الملكي عن الحاجة إلى “إعادة تكوين”.
“الدولة” تستعيد الملف، لأن الضرر الناشئ عن هلاك قطيع الماشية سيكون صعبَ التعويض والاستدراك، ولأنّ هناك شعورا صار يتسرّب بشأن هشاشة الأمن الغذائي في هذا الوطن، بعد كل تلك المخططات الملوّنة، بين الأخضر والأزرق، والتي تحوّلت إلى القتامة رغم الميزانيات الضخمة التي صُرفت من المال العام. وإن مراجعةً لأبرز محطات الاحتجاجات الكبرى في تاريخ المغرب ستنتهي إلى إدراك حضور المعطى المعيشي أكثر من المطلب السياسي. هذا لا يُدركه “المسيّسون جوطابل” و”الساقطون على السياسة بالمظلات” و”القابلون للصبغ بأي لون”، الذين يعتقدون أن كل شيء قابلٍ للتسعير، وتدركه “الدولة” جيّدا.
على هذا الأساس، يمكن أن نتوقّع، ابتداءً من الآن، بدايةً تفكيكٍ لمراكز نفوذ وحُظْوة تتغوّل على معيش الناس، ويمكن أن تتسبّب في أضرار للسلم الاجتماعي، بعد تفشي شعور بأن رأس المال تتمدّد إلى موائد البسطاء ليسرق منها. إن السياسات المتغولة خطرٌ على النظام السياسي، بقدر ما هي إضرار بمصالح أغلبية المواطنين المستبعدين من الثروة التي تخضع لـ”قسمة ضيزى”.
قصارى القول
القرار الذي خرج من المجلس الوزراي يتأسس على تقييمٍ أفضى إلى إلغاء ذبح الأضاحي هذا العام كإجراء أوليّ لمحاصرة التداعيات وتصحيح السوق، وعرّج على وجوب تدخلٍ لتصويب خلل صار بنيوياً في سياسات الدعم يرقى إلى شبهة الفساد الممأسس، من خلال تقويمِ نقلَ الملك بموجبه مسؤولية الدعم من وزارة الفلاحة إلى الداخلية، لكنه ترك مساحة المحاسبة فارغة، يمكن أن تُملأ بالسياسة من خلال محاولةٍ برلمانية لإطلاق لجنة لتقصي الحقائق، على أن هناك مسؤوليةً مجتمعية يجب أن نصرّح بها: إن المواطن الذي يقبل أن يأخذ المال ليمنح صوته هو مساهمٌ، بشكل ما، في تغوّل رأس المال. المحاسبة عن هذا الفساد تبدأ أيضا من إدراك من يقررون التصويت أنهم مساهمون في صنع السياسات. من اشترى صوتكَ أيها المواطن فقد أنجزَ معك صفقة، ليتفرّغ لصفقاته.