أجساد النساء في وجه السلطة
شهد المغرب خلال سنة 2025 موجة جديدة من التظاهرات التي قادها شابات و شباب جيل “Z”، تميزت بحضور نسائي قوي ومؤثر جسد استمرارا لنضال النساء المغربيات من أجل الحرية والمساواة والكرامة، وامتدادا طبيعيا لمسار الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية التي عرفتها البلاد خلال العقد الأخير.
فقد أعادت صور الشابات اللواتي تصدرن الصفوف الأمامية لهذه الاحتجاجات إلى الأذهان مشاهد شبيهة بتلك التي طبعت حركة 20 فبراير سنة 2011، حين برزت شابات مغربيات في الشوارع يرفعن أصواتهن دفاعا عن الكرامة والعدالة الاجتماعية. بهذا المعنى، لا يمكن فهم تظاهرات 2025 بمعزل عن هذا السياق التاريخي المتصل، الذي يشهد على إصرار النساء على أن يكن فاعلات أساسيات في معركة التغيير والديمقراطية.
ورغم أن الحق في التظاهر السلمي مكفول بشكل صريح في الفصل التاسع والعشرين من الدستور المغربي، الذي يضمن حريات الاجتماع والتجمهر والتعبير، فإن تعامل السلطات مع بعض هذه التظاهرات أثار جدلا واسعا حول مدى احترام المقتضيات الدستورية والالتزامات الدولية للمغرب في مجال حماية الحريات العامة. فالتظاهر السلمي ليس تهديدا للنظام العام، بل ممارسة مشروعة لحق أصيل من حقوق المواطنة، لا يجوز تقييده إلا بحدود الضرورة القصوى، وفق مبدأ التناسب المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادق عليه المغرب وجعل أحكامه جزءا من منظومته القانونية الوطنية. لذلك، فإن أي تدخل أمني غير مبرر قانونا أو استخدام مفرط للقوة في مواجهة احتجاجات سلمية يعد انتهاكا لجوهر الحق في التعبير والتجمع، وإخلالا بمبدأ سيادة القانون الذي تقوم عليه الدولة الحديثة.
وفي هذا الإطار، وثقت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، إضافة إلى معطيات وردت من هيئة دفاع عدد من الشابات الموقوفات، تعرض بعض المتظاهرات أثناء توقيفهن أو استجوابهن للتحرش ولاستفزاز نفسي، بل وتعرض بعضهن لعنف رمزي مس كرامتهن وأجسادهن. هذه الممارسات الخطيرة ، لا تمثل مجرد تجاوزات فردية، بل تندرج ضمن انتهاكات مركبة تمس عدة حقوق أساسية، منها :الحق في الكرامة الإنسانية، والحق في المساواة أمام القانون دون تمييز. فالتحرش والعنف أثناء التوقيف لا يمكن النظر إليهما كتصرفات معزولة، بل كمؤشرات على خلل عميق في كيفية تعامل بعض الأجهزة مع النساء، خصوصا حين يخرجن إلى الفضاء العام للمطالبة بحقوقهن.
إن التحرش بالنساء أثناء ممارسة حقهن في التظاهر يعتبر انتهاكا مزدوجا: فهو من جهة خرق مباشر للفصل 22 من الدستور الذي يحظر المعاملة المهينة أو القاسية، ومن جهة أخرى انتهاك لاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) التي تلزم الدولة المغربية باتخاذ التدابير الضرورية لحماية النساء من أي عنف أو تمييز قائم على النوع الاجتماعي، سواء أكان صادرا عن أفراد أم عن مؤسسات. كما أن هذه الممارسات تتعارض مع روح القانون الجنائي المغربي نفسه، الذي يجرم التحرش والعنف ضد النساء في الفضاءات العامة، مما يجعل من أي سلوك من هذا القبيل فعلا معاقبا عليه بمقتضى القانون.
وتكمن خطورة ما تعرضت له بعض الشابات في كونه لا يمس فقط أجسادهن أو نفسياتهن الفردية، بل يوجه رسالة سلبية للمجتمع بأسره، مفادها أن الفضاء العام ما زال غير آمن للنساء، وأن التعبير عن الرأي قد يكون ثمنه التعرض للإهانة أو الإيذاء. وهذا يشكل، في العمق، قمعا متقاطعا و مركبا يهدف إلى ردع النساء عن المشاركة في الحياة العامة والسياسية، عبر استخدام العنف الرمزي والجسدي كأداة لإسكات أصواتهن. فحين يقابل الحضور النسائي في الشارع بالتحرش أو العنف، فإن ذلك يعني المساس بمبدأ المساواة أمام القانون وبالقيم التي يقوم عليها الدستور المغربي نفسه.
إن مشاركة النساء والشابات في التظاهرات لا تمثل مجرد ممارسة لحق دستوري في التعبير، بل هي فعل تحرري عميق يروم إعادة تعريف حضور النساء في الفضاء العام. فحين تختار الشابات النزول إلى الشارع دفاعا عن قضايا مجتمعية عادلة، فإنهن لا يدافعن فقط عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية، بل يطالبن أيضا بحق أصيل في الوجود والمشاركة والمواطنة الكاملة. إن معركة تواجد النساء في المظاهرات هي معركة لتحرير النساء وضمان حضورهن في الفضاء العام بشكل آمن وحر ومتساو، وهي امتداد طبيعي لنضال طويل خاضته الأجيال النسائية السابقة ضد التهميش والعنف والتمييز، وتأكيد على أن بناء الديمقراطية يمر عبر ضمان المساواة في الفعل والحق والمسؤولية.
وتقع على عاتق الدولة مسؤولية قانونية وأخلاقية في هذا السياق، تتمثل في احترام الحق في التظاهر، وحماية المتظاهرات من أي عنف أو تحرش أو انتهاك، والوفاء بالتزاماتها الدستورية والدولية من خلال تمكين النساء من ممارسة حقوقهن في بيئة آمنة ومتحضرة. فالدولة التي تصون كرامة النساء وتحمي حضورهن في الفضاء العام إنما ترسخ بذلك قيم المواطنة المتساوية وتؤكد التزامها بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان. إن احترام هذه الالتزامات لا يعد فقط واجبا قانونيا، بل هو مقياس حقيقي لمدى نضج التجربة الديمقراطية المغربية وقدرتها على الجمع بين السلطة والحرية في إطار من الكرامة والمساواة.
لقد حملت تظاهرات 2025 رسالة واضحة: أن جيلا جديدا من الشابات المغربيات قررن مواصلة مسار النضال الذي بدأته نساء حركة 20 فبراير وكل الحركات النسوية السابقة، وأن حضورهن في الشارع اليوم ليس حدثا عابرا، بل إعلان صريح عن إرادة جماعية في إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس من الحرية والمساواة والعدالة. فالمغرب الذي يضمن لشاباته الحق في التظاهر والتعبير، ويحمي كرامتهن من أي مساس أو تمييز، هو المغرب الذي يسير بثقة نحو دولة الحق والقانون، حيث تكون الكرامة والحرية والمساواة حقوقا فعلية لا شعارات مؤقتة.