story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

من الرباط… سلامٌ إلى دمشق

ص ص

القرار المغربي الذي أعلنته الرسالة الملكية الموجهة للقمة العربية التي انعقدت أول أمس السبت 17 ماي 2025، والقاضي بإعادة فتح السفارة المغربية في دمشق، لا يمكنه أن يمرّ مرور الكرام.

كما لا يمكن للتدبير الذي قامت به الدبلوماسية المغربية للملف السوري منذ انحرافه عن المسار السلمي للربيع العربي وإلى اليوم، إلا أن ينتزع اعترافا صريحا وشجاعا بنجاعته وثباته على خطّ واضح، أفضى في النهاية إلى موقف مغربي مشرّف، انحاز إلى الحق والعدالة عندما بات النظام السوري السابق يقتّل مواطنيه، وعاد إلى دمشق في لحظة حيوية تتسم بإعادة رسم خريطة المنطقة ومعها العالم.

التدبير الناجح للملف السوري بين يدي الدبلوماسية المغربية لا يفسّر بالحظ ولا المصادفة، بل لأن المغرب كان صاحب موقف واضح، واختيار صريح بالاصطفاف إلى جانب الشعب السوري، وكانت دبولمسيته نشيطة ومبادرة ومتفاعلة.

قليلون سيذكرون أن المغرب كان يتحدّث أمام مجلس الأمن الدولي منتقدا جرائم النظام السوري، وقليلون أيضا يعرفون، كما أخبرني بذلك مصدر دبلوماسي جدّ موثوق، أن قرار المغرب إغلاق سفارته في دمشق عام 2012، كان بسبب إمعان نظام الأسد في تقتيل مواطنيه، هذا صحيح، لكتن أيضا لأن مقرّ السفارة المغربية تعرّض للهجوم والاستهداف عبر الرشق بالحجارة من طرف “شبّيحة” النظام بعد تعبير المغرب عن موقف منتقد للنظام في نيويورك.

نشاط ومبادرة المغرب في هذا الملف، بالمعنى الإيجابي والبناء، تمثّلت أيضا في احتضان مراكش اجتماعا لما يعرف بمجموعة أصدقاء سوريا، وفي إقامة مستشفى عسكري ميداني في مخيّم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، والذي كان الجهة الوحيدة التي تقدّم الخدمات الطبية في واحد من أكبر مخيّمات السوريين الفارين من بطش النظام.

بل إن الملك محمد السادس قام بزيارة هذا المخيّم بنفسه شهر أكتوبر 2012، لتستمرّ خدمات المستشفى زهاء ثماني سنوات، إذ لم ينته العمل به سوى أواخر 2020.

لكل هذا لا يمكن سوى اعتبار التدبير المغربي للملف السوري أقرب إلى المثالية، ليس من حيث الاختيارات والمواقف التي تظل نسبية وقابلة للاختلاف، بل من حيث المبادرة والفعل والاحتفاظ بأوراق يمكن استخدامها.

ودعوني أقول إنه وبصرف النظر عن الغموض الذي يلفّ طريقة انتقال آلاف المقاتلين المغاربة إلى الساحة السورية، فإن التعاطي الأمني مع هذه الظاهرة كان في لحظة من اللحظات من نقط القوة التي حازها المغارب، خاصة تجاه جيرانه الأوربيين، لما تراكم لديه من بنك للمعطيات الثمينة والفعالة.

لكل هذا يعتبر قرار إعادة فتح السفارة المغربية في دمشق، الذي أعلنه العاهل المغربي محمد السادس من منصة القمة العربية في بغداد، أكثر من مجرد بادرة تقنية لتأهيل العلاقات الثنائية، بل هو تتويج لمسارٍ طويل حافظ فيه المغرب على واحدة من أندر الصفات في هذه المنطقة المضطربة: الوضوح والثبات.

فحين اختار المغرب الاصطفاف مع “الشعب السوري”، لم يفعلها بطموح توسعي أو مناورات إعلامية كما فعلت دولٌ أخرى، بل بحدس سياسي عميق يرى أن انتصار الإنسان هو شرط استقرار الأوطان.

كما أن المغرب لم يمول جماعات إرهابية، ولم يشعل جبهات، بل احتضن مؤتمر “أصدقاء الشعب السوري”، واعترف بالائتلاف الوطني كممثل شرعي للشعب السوري، وهو قرار كان ينسجم مع سياق سياسي دولي واسع، دون أن يتورط في منطق الإقصاء أو دعم العسكرة.

ودعونا نقولها بكل صراحة: المغرب كان صاحب مصلحة في تغيري النظام السوري لأسباب خاصه به أيضا، وليس لأنه بات نظاما مجرما في حق شعبه.

فقد كان النظام البعثي واحدا من معاقل العداء تجاه المغرب ومصالحه الحيوية بما في ذلك وحدته الترابية.

ومن أراد أن يفهم ذلك جيّدا فعليه أن يعود عقودا إلى الماضي، حين كان المغرب أكثر اشتباكا مع القضايا العربية والإقليمية، وبالتالي كانت هناك مؤشرات ومعطيات أكثر وضحا.

الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان من أشدّ خصوم الحسن الثاني في المنطقة العربية. رغم ما كان يجمع بينهما من مميزات شخصية تتعلّق بالكاريزما، وما عبّر لي عنه الأستاذ المخضرم مصطفى السحيمي عندما كنت أعد ملفا حول أعداء الحسن الثاني قبل أكثر من 17 عاما، من “ذكاء سياسي وقدرة كبيرة على المناورة وميل إلي الواقعية السياسية بدل التعصّب الإيديولوجي…”.

ورغم أن الحسن الثاني أرسل قبل اندلاع حرب 1973 بأزيد من ستة أشهر، تجريدة عسكرية الى الجولان السوري، ووضعها تحت إمرة القيادة السورية. فإن ذلك لم يكن ليخفي اختلافات جوهرية بين الرجلين.

اختلاف يتمثل في تباعد العلاقات وبرودتها بين الرجلين لعدة أسباب منها الموقف من القضية الفلسطينية، كما عبّر عن ذلك الحسن الثاني شخصيا، عندما فسّر لماذا أقدم على إلغاء قمة عربية كان قد افتتحها سنة 1981.

“…كان جميع رؤساء الدول والوفود حاضرين ما عدا الرئيس حافظ الأسد الذي أبلغني ساعات قبل افتتاح المؤتمر أنه تعرض لنزلة برد. وأنه يتعذر عليه المجيء. مع العلم أن سوريا، إذا تركنا لبنان جانبا، هي الدولة الوحيدة التي يوجد جزء من أراضيها تحت الاحتلال. وبالتالي كان حضورها ضروريا لمناقشة مشروع مخطط تسوية النزاع الإسرائيلي العربي. وبعد أن جمعت ضيوفي قلت لهم: بما أن الرئيس السوري لم يأت، فلم يعد هناك من مبرر لعقد القمة. إني أعلن إلغائها”، يقول الملك الراحل.

وبعيدا عن القضية الفلسطينية، كانت سوريا النظام السابق مرتاحة في اختيارها للمعسكر الشرقي في فترة الحرب الباردة، منصهرة في سياسة الاتحاد السوفياتي ومرتاحة لتوجهاته الاقتصادية والعسكرية. مما كان يدعو الى النفور من مغرب ملكي معروف بقربه من الغرب.

بل إن دمشق كانت لا تتوانى في دعم المعارضين للحسن الثاني. ويكفي دخولهم إليها واستقرارهم بعيدا عن أعين المخزن الحسني، ليكون الأسد خصما مفترضا، راوغه الحسن الثاني بذكاء أثناء زيارته الى دمشق، حيث رفض الذهاب الى المسجد الأموي، بدعوى رفضه الصلاة في مسجد سُبّ فيه جده علي.

كل هذا لم يمنع من إرسال الجنود المغاربة لحراسة دمشق. ولولاهم لسقطت في يد الجيش الإسرائيلي. وهي ما تزال تحتفظ في مقبرة خاصة برفات الجنود المغاربة.

اليوم، وبعد مضي أكثر من عقد على اندلاع الثورة السورية، وسقوط نظام الأسد الابن في ديسمبر 2024، لا يعود المغرب إلى دمشق ضعيفا أو متراجعا، بل يعود بشروطه ورؤيته، ليتسلّم مفاتيح السفارة من جديد في سياق عربي مختلف، وسوري يتلمس طريقه بين أنقاض الماضي الثقيل.

هذا ما يجعل القرار استمرارا لا قطيعة: استمرارية في الدفاع عن وحدة سوريا، ورفض لتقسيمها، واستمرار في مدّ اليد للشعوب، لا للحكام.

من خلال هذا المسار، يُمكن القول إن الموقف المغربي من الأزمة السورية يستحق أن يُدرَّس كنموذج نادر في التوازن بين الواقعية السياسية والمبدئية الأخلاقية. فهو لم يصفق للديكتاتور، ولم يتاجر بدماء الأبرياء، ووقف مع الشعب دون أن يتورط في منطق الفوضى، وراهن على الحل السياسي دون أن يخون قيم الكرامة والحرية.

المغرب يقدم مرة أخرى درسه الهادئ: لا يمكن بناء المستقبل من دون ذاكرة، ولا ذاكرة من دون احترام معاناة الناس. السياسة الخارجية ليست صفقة، بل مسؤولية.

دمشق تستعدّ اليوم لاستقبال دبلوماسيي الرباط بعد طول فراق، لكنها تجدهم كما تركتهم: مبدئيين، رصينين، لا يرفعون الصوت كثيرا، لكنهم يرفضون الدوس على القيم…

هذا هو الوجه المشرق الذي نريده للمغرب.