story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

محمد البقالي… حنظلة المغربي

ص ص

بينما كانت موجات المتوسط تخبّئ في جوفها احتمالات الخلاص أو الخطف أمام سفينة “حنظلة” هذا السبت 26 يوليوز 2025، كان محمد البقالي هناك، واقفا لا على سطح الخشبة العائمة، بل على حدّ الفكرة، في نقطة التماس بين شرف الصحافة وجنون الاحتلال.

لقد اختطفته إسرائيل، لكنه لم يختطف لحظة الشهرة، ولا خرج يبحث عن بطولة تُنحت لها الصور وتُرصّع بها السِّير الذاتية، بل كان فقط يؤدي ما يعتبره “وظيفته”، تلك الكلمة التي فقدنا معناها في زمن أصبحت فيه الوظيفة مرادفة للامتثال والانبطاح، لا للموقف والكرامة.

أتذكر جيدا تلك الليلة السابقة لانطلاق سفينة “حنظلة”، حين اتصل بي محمد يخبرني أنه مقبل على هذه المغامرة. لم يكن الاتصال لإثارة الإعجاب أو التباهي، بل كما يفعل المقاتل قبل المعركة، يربط خيوطه الإنسانية، ويطمئن قلوب من يهمه أمرهم، ويتقاسم معهم لحظة الصدق النادرة.

أنا على يقين من أنه فعل الشيء نفسه مع أغلب أصدقائه وزملائه المغاربة، وكأن لسان حاله يقول: “أنا ذاهب إلى المجهول، لكنني أحملكم في قلبي، فاحملوني بدوركم في وجدانكم”.

حتى وهو يحمل كاميرا “الجزيرة”، بكل ما تمثله من حضور وتأثير وضمانات دولية، وحتى وهو ينتمي إلى واحدة من أقوى المنصات الإعلامية في العالم، لم يتخل محمد لحظة عن مغربيّته.

بل ظل حريصا على أن يكون مغربيا قبل كل شيء.

أراد محمد أن يحمله المغاربة فوق أكتافهم الرمزية، وهو يمخر عباب البحر نحو غزة، تماما كما يحملون أحلامهم في صمت، ويتقاسمون الألم والأمل دون بهرجة.

وحتى وهو يُقدم على احتمال الشهادة، لم يكن يريد أن يكون غريبا، أو نجم منفى، بل واحدا من هؤلاء الذين يشبههم ويشبهونه.

لا أكتب عن محمد لأنه صديقي، رغم أنني عرفته قبل أكثر من عشرين عاما حين كان صحافيا شابا لا تزال شعلة الإيمان تحترق في عينيه، ولا لأنني أشاركه التكوين والهمّ والدهشة التي تملأ قلب أبناء الصحافة حين تدخلهم من باب القيم قبل الحسابات.

ولا أكتب لأقول إنه بطل خارق، ولا لأعدّد إنجازاته المهنية والأكاديمية، بل لأقول شيئا واحدا: هذه هي طينة من يواجهون الكيان الإسرائيلي.

فاستنتجوا، من هو الكيان الذي يرتعب من أمثال هذا الرجل.

لست ممّن ينظرون إلى صروف الدهر وحوادث الأيام كمن ينظر إلى سطح مياه البحر، بل غالبا ما أجدني أفكر في أسرار المياه العميقة التي صنعت تلك اللوحة كي نراها فوق السطح. ولا أعتقد بالتالي أن وجود محمد البقالي فوق ظهر سفينة “حنظلة” مجرّد صدفة.

يشبه محمد البقالي في حضوره، وعفويته، وتواضعه، وصرامته الأخلاقية، شخصية حنظلة. ذاك الطفل الفلسطيني الذي ابتكره ناجي العلي، والذي بقي في العاشرة من عمره، لا يكبر حتى تعود فلسطين، يدير ظهره للعالم، كمن يرفض المساومة والخذلان.

لعلّنا لو شئنا أن نتخيل حنظلة وقد كبر، وخرج من صمته، وسار على قدميه بدل أن يبقى منقوشا على الجدران، لصار اسمه محمد البقالي.

ما الذي يجعل من صحافي مغربي، في خضم مهامّه الميدانية في أقصى شرق الأرض وأدنى مغربها، وبعد مسار طويل في تغطية الحروب والثورات والانتفاضات، يركب البحر متجها نحو غزة المحاصرة، متحدّيا سطوة الكيان الذي لا يعرف لا أخلاقا ولا قانونا؟

الجواب بسيط: لأنه لا يزال يحتفظ بتلك “العدالة البدائية” التي يُولد بها الصحافي الحق، قبل أن تدجنه المؤسسات وتروضه المصالح.

محمد لم يكن غريبا عن هذا البحر. فقبل عشر سنوات، كان على متن سفينة أخرى ضمن “أسطول الحرية”، وقد نجا وقتها من بطش الاحتلال. كان يمكنه أن يكتفي بوسام التجربة، لكن “حنظلة” داخله لم يكبر، فاختار أن يعود.

هو ذلك الطفل الذي لا يكبر، لأنه يعرف أن فلسطين لم تعد بعد، وأن غزة لم تتحرر، وأن الضمير العربي ما زال تائها في دهاليز المساومة والخضوع.

عرفته أول مرة في معهد الصحافة، كنت أنا تلميذا جديدا وهو من الخريجين القلائل الذين لم يغادروا المكان معنويا.

بقيت الصلة بيننا موصولة، تتراوح بين الزمالة والتقدير العميق، وظلّ دوما ذلك النوع من الأصدقاء الذين لا تحتاج أن تطلب منهم شيئا، لأنهم يسبقونك إليه.

حين أطلقت رفقة الزميلة حنان بكور صحيفة “صوت المغرب”، في لحظة كاد الإعلام المغربي أن ينهار، كان أول المتصلين: كيف يمكنني أن أساعد؟

وكان دوما خير ناصح وخير مرشد، ينقل إلينا التجارب العالمية كما تُنقل النار من جذوة إلى جذوة، دون أن تنطفئ.

لكن البقالي ليس مجرد صديق نبيل، هو صحافي من طينة ابن بطوطة، لا يكاد يستقر حتى يسافر.

غطى الثورات من تونس إلى السودان، والحروب من ليبيا إلى غزة، والانتخابات من باريس إلى الرباط، ومع كل تقرير له، كنت تشعر كأنك في عين المكان، كأنك تعيش ما يعيشه، وتشمّ ما يشمّه، وتخاف كما يخاف.

وهذا ما لا تمنحه لك سوى الصحافة عندما تتقاطع مع الصدق.

ألّف محمد كتابا مرجعيا عن “المهنية والإيديولوجيا في الصحافة”، وعاد ليمتحن أفكاره في الميدان، حيث لا تنفع التنظيرات، بل فقط الضمير.

يُدرّس ويكوّن ويكتب، لكنه حين يسمع نداء غزة، لا يتردد. لأنه مثل حنظلة، لا يملك رفاهية الحياد.

الظهر المدبر لدى الطفل الكاريكاتوري تحول إلى كاميرا تواجه الرصاص في يد البقالي. كلاهما يرفض، أحدهما بالصمت، والآخر بالصورة.

حتى في حضوره التلفزيوني، البقالي لا يتصنع. لا يستعرض بدلا أنيقة ولا يتعالى على الكاميرا. لا يسعى ليكون نجما، بل شاهدا. لأنه يعتبر أن الرسالة أقوى من الصورة، والواجب أعلى من الشهرة.

اليوم (كتبت هذا المقال صباح الأحد 27 يوليوز 2025)، محمد البقالي في قبضة الاحتلال. في مكان ما، حافي القدمين في الغالب لاعتبارات أمنية، بملابس ميدانية، بكاميرا قد تكون صودرت، وهاتفه الذي كان يراسلنا به يستقر في بطن البحر على الأرجح، كي لا تسقط معطياته في يد الكيان.

وبصمت قد يكون مفروضا، لكنه لا يزال يحمل في داخله حنظلة الذي لا يكبر، لا يساوم، لا يخون، ولا يقايض الصمت بالسلامة.

محمد البقالي هو حنظلة المغربي. لا لأنه رسمه، بل لأنه عاشه. هو الطفل الذي لا يكبر حتى تعود فلسطين، والصحافي الذي لا يهدأ حتى يقول الحقيقة، والصديق الذي لا يغيب حتى وهو بعيد.

هو ذلك النوع من البشر الذين يُختطفون مرّتين: مرة من البحر، ومرة من الضمير الجمعي الذي لم يفهم بعد أن أمثال محمد هم آخر ما تبقى لنا من المعنى.

صديقي محمد،

في غيابك يتكلم الجميع عنك، لكنني أردت فقط أن أقول لك ما لن يقوله أحد في قاعات الأخبار ولا على منصات التواصل:

ابق كما عرفناك، واقفا وإن كنت مقيدا، حرا وإن كنت محتجزا، حنظلتنا الذي كبر ولم يتنازل.

ننتظرك، لا لنحتفل بعودتك فقط، بل لنكمل معك ما بدأته: أن نعيد للصحافة معناها، وللصداقة عمقها، وللوطن بعضا من رجاله.