story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

غزة.. الاختبار مستمر

ص ص

مَنْ قال إن القضية انتهت؟

بعد تجاوز 600 يوم من القتل والعدوان، كل شيء جامد سوى أرقام الضحايا والجوعى والمكلومين.

من قرّر أن نطوي الصفحة لأن بعض البنادق خفت صوتها، أو لأن وسطاء القتل قالوا إن “الفرصة مواتية” لتبادل أسرى قبل أن تُستأنف المجازر؟

من منح الحق لمن جلسوا على ركام غزة بصفتهم أصدقاء أو أعضاء في أوركسترا القصف، أن يعرضوا “هدنة” مشروطة: يعانق الأسرى بعضهم البعض، ثم يُستأنف الذبح؟
الأخطر من كل هذه المقايضات ليس توقيتها، ولا دمويتها المقنّعة، بل ما تنطوي عليه من مصادرة للقرار الفلسطيني، وتحويله إلى بند ضمن محضر تفاهم بين أطراف خارجية وتل أبيب، موقع باسم العرب جميعا، نيابة عن أصحاب الدم.

لنكن في غاية الوضوح، وبلا مواربة ولا مداراة: لا أحد، كائنا من كان، مفوَّضٌ للتفاوض باسم غزة، سوى أهلها الذين يسكنونها، ويتنفسون رائحة دمها، ويعرفون تضاريسها لا من خرائط المخابرات، بل من دروب الشهداء وأزقة المخيمات.

لا مبعوث أممي، ولا وسيط إقليمي، ولا ناطق باسم “الشرعية”، ولا حتى “صديق لفلسطين” يملك الحق في النطق باسم هذه الأرض، أو رسم خريطة خلاصها، أو وضع جدول زمني لمعاناتها.

إن من يُسمّون في غرف التفاوض بـ”الضحايا”، ليسوا رقما إحصائيا قابلا للمساومة، ولا ملفا تفاوضيا يمكن سحبه أو تجميده.

الضحايا الحقيقيون هم من صمدوا تحت الحصار، وأكلوا خبزا مغمّسا في الخوف، وناموا على وقع الطائرات، واستيقظوا ليجدوا البيت خرابا والجيران تحت الردم.

ثم، رغم كل شيء، اختاروا أن يقاوموا، لا أن يستجْدوا، وأن يصنعوا إرادتهم بأنفسهم، لا أن يُصنَّفوا داخل تقارير الاستغاثة الإنسانية.

من ذا الذي يملك الجرأة وما يكفي من قلة الحياء ليحدّد لهم سقفا سياسيا؟

من هذا الذي يرى نفسه أقدر منهم على تقييم ثمن الدم الذي دفعوه؟

هل من قتل أبناءه أمام عينيه بحاجة إلى خبير دولي ليشرح له معنى الكرامة؟

هل من بقي حيا بعد مجزرة، ثم رفع رأسه ليحمل سلاحه من جديد، في حاجة لمن يفاوض باسمه في قصر مكيّف؟

العدالة، قبل أن تكون مبدأ قانونيا، هي إرادة حرة لأصحاب الحق.

وغزة، في وجه كل هذه المعادلات الدولية المعوجّة، ترفع شعارها الأبدي: نحن هنا، وسنقرر وحدنا متى نصمت، ومتى نتكلم، ومتى نوقع.

كل من يتجاهل هذه الحقيقة، أو يحاول الالتفاف عليها، لا يقل عن المعتدي جريمة، وإن لبس قفازات الوساطة ولغة التعاطف.

لقد كان الموقف واضحا منذ اليوم الأول، ويجب أن يبقى كذلك لا يتزحزح ولا يلين، لأن ما يُختبر اليوم ليس فقط صبر غزة، بل أيضا ثبات ضمائرنا، وقدرتنا على التمسك بالمبدأ حين تتداخل الروايات وتتشوش الحسابات.

نقف، دون تردد أو مراوغة، مع الحق الفلسطيني الأصيل في مقاومة الاحتلال، لأنه ليس خيارا سياسيا بل حق قانوني وإنساني وأخلاقي لا يسقط بالتقادم ولا يُقايض تحت القصف.

نقف ضد كل عدوان يستهدف الإنسان الفلسطيني، وضد كل محاولة لتجريده من صوته، أو زجّه في معادلات لا تضع مأساته في مركزها، بل تستعملها ورقة ضغط في مفاوضات باردة.

لا نسمح لأنفسنا، مهما بلغ تعاطفنا، أو مهما عظمت تحليلاتنا، أن نملي على الفلسطينيين لا توقيت صمودهم، ولا طريقة قتالهم، ولا مضمون توقيعهم.

الكرامة الوطنية لا تُدار بجهاز التحكم عن بعد، ولا تُفرض من عواصم لا تعرف حرارة الغارات، ولا هدير الأنفاق.

من السهل أن نُحب فلسطين من بعيد، لكن الأصعب، والأصدق، أن نحترم خيارات شعبها وهو يقاتل وحده ويقرر وحده ويدفع الثمن وحده.

ولذلك، فإن أكبر خيانة يمكن أن تُرتكب باسم النصرة، هي أن نساوم على المبدأ، أو أن نُلبس الوصاية ثوبَ الحكمة.

أن تقف مع فلسطين، يعني أن تثق في قدرة شعبها على تقرير مصيره دون وصاية، وأن تدافع عن حقه في المقاومة دون شروط، وأن ترفض أي صيغة لوقف النار تجعل من الهدنة استراحة قاتل.

فمن لا يرى هذه الحقيقة، فليصمت على الأقل، ولا يزايد على من دفن أبناءه، ثم وقف شامخا، يُكمل المعركة.

فلسطين لا تحتاج مزيدًا من “الناصحين” بل تحتاج حلفاء.

غزة تطلب منّا ألا نخونها مرتين: مرة بالصمت، ومرة بمحاولة إقناعها أن تقبل بما لا يقبله منطق ولا عقل.

ما يجري اليوم، في كواليس العواصم الإقليمية والدولية، ليس تفاوضا بين طرفين متكافئين، بل مناورة تحاول واشنطن من خلالها استعادة دور “الوسيط القاتل”، بفرض هدنة يتم من خلالها ترميم صورة إسرائيل، ثم إعطاءها الإذن لإكمال المهمة: تصفية غزة سياسيا، بعدما عجزت عن تصفيتها ميدانيا.

لكن غزة، التي أدهشت العالم بطول صمودها، تُفشل أكثر مما تُفاجئ.

كل يوم يمر، لا يعني فقط بقاء المقاومة، بل إطالة زمن الاختبار الأخلاقي لكل العالم.

كل ساعة تضرب فيها غزة، يُسجَّل موقف جديد، وكل بيت يصمد في خان يونس، يُسقط ورقة توت جديدة عن عواصم تآمرت، أو باركت، أو صمتت.

لم تعد المسألة مسألة بنادق، بل ضمائر.

وأنت، أيها الإنسان حيثما كنت، أين تضع نفسك في هذا الاختبار؟

هل ستصفّق لوسيط يتفاوض على “أرواح مبرمجة للتصفية”؟

أم تنحاز للناس الذين يكتبون بالدم أن الحرية لا تُؤجّل، حتى وإن جاءت على شكل هدنة، أو على شكل “مكرمة إنسانية” من الاحتلال؟

غزة لا تحتاج وقف إطلاق نار، بل كفّ يد القاتل نهائيا.

ولا تحتاج انتصارا دعائيا، بل احتراما لإرادتها، وسندا في معركة تحررها الكامل.

هذا هو الموقف.

وهذا هو الامتحان.

ولا حياد في الامتحانات الأخلاقية.