story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

دفاعاً عمّن خذلنا

ص ص

نملك ألف سبب حتى نلعنَ النظام العربي، نحن الشعوب التي قالوا إنها تعيش في تابوت، ولا تستحق ديمقراطية.

نملك كل دواعي غضبٍ مكتوم من نظام عربي مخروم، لا هو تركنا نتنفّس حرية، ولا منحنا كرامة وتنمية. ونستحقّهما معاً.

من حقنا أن نحاسبهم واحدا واحدا، ولا أستثني أحداً، عن موقف مخجلٍ طيلة 15 شهرا من الإبادة في غزة، حين شعروا أن ما يجري بعيدٌ جدا هناك، وأنه لا لنا في العير ولا في النفير. قبل أن يكتشفوا العكس.

لكن، هل يكون ضرورياً في زمن محاولة التهجير والتوطين مهاجمة النظام العربي المنهك؟ هي مسألة اختيارات وتقدير موقف. وكلٌّ يقدّر بميزانه. ولا اعتراض.

غرض مقالتي:

أصرّح أنني “سأدافع” عن النظام العربي في هذا السياق الذي تمرّ بها المنطقة، ارتباطا بمخططات تفجير دولٍ من الداخل بمشروع تهجير الفلسطينيين تحديداً.

فرضيتي:

أزعم أن أغلب النظام العربي، خاصة دول الجوار، يرفض فعلاً تهجير الفلسطينيين.

دافعي:

المساهمة في إحباط خطة ترامب لإفراغ غزة، وتسليم الضفة الغربية لدولة الاحتلال.

دفوعاتي:

إنّنا بصدد وضعية ملتبسة ومربكة. بعد عقود من الإحباط من أن يكون للأنظمة العربية صوتٌ، وعقب غضب شعبي متراكم في النفوس من سياسات كانت تخدم إسرائيل، ضمن مسارات تنازلٍ حتى وصلنا إلى مرحلة تطبيع مجاني دون حاجة لحلّ القضية الفلسطينية، فضلا عن علاقاتٍ بيْنية كانت دوماً مصابةً بمرض التواطؤات المُزمن، نجد أنفسنا كشعوب، في وضعية تكاد تكون استثنائية، في حالة تقاطعِ مصلحةٍ مع هذه الأنظمة الغارقة في الاستبداد والفساد، فرضه المدّ العاتي لمشاريع التهجير والتخريب التي يدفعُ بها ترامب.

وعليه، لا أعتقد أن هناك فائدة كبيرة تُرجى في التصويب مثلا على الملك عبد الله الثاني أو عبد الفتاح السيسي في هذه المرحلة ارتباطاً بقضية تهجير الفلسطينيين تحديداً وحصراً. الخطر المستجد الذي يحدق بالقضية الفلسطينية وسلامة أوطانٍ عربية يستوجب نهجاً مخالفاً في التعاطي، لا يذهب حدّ تبييض صفحات سوّدتها هذه الأنظمة في علاقة بشعوبها، وبفلسطين. وأقصد نهجَ سبيلٍ لا يُضعف هذه الأنظمة أكثر من ضعفها، ولا يكشفها أكثر مما هي مكشوفة، ولا يسلّمها عَزْلاءَ من أي سبب لمقاومة مخططات ترامب.

كنت كتبت في هذا الحيّز أن صمود الشعب الفلسطيني في غزّة واستمرار المقاومة لا يعني زوال الخطر. وكنت كتبت أيضا عن ترامب باعتباره خطراً داهماً يمثّل النسخة الأكثر تطرفاً بين الرؤساء الأميركيين فيما يتعلّق بمشاريع إسرائيل. وكنت أرى بوضوح ممكنات تحويل فشل إسرائيل في تحقيق أهداف الحرب على غزة إلى مكاسب استراتيجية، وأنه “في السياسة قد ترتكب جرائم أفظع من الإبادة”، و”في الدبلوماسية قَتَلَةٌ مهرةٌ” لا يحتاجون سفْكَ الدماء.

لم يتأخّر كل ذلك حتى خرج ترامب، الذي يقف على يمين اليمين المتطرف في إسرائيل، بكل تلك الأفكار المُجَرَّمة في القانون الدولي، والتي أحدثت قدراً هائلا من الإرباك للنظام العربي، الذي يُفترض أنه بات يُدرك الآن (هل سيُدرك فعلا؟) أن المقاومة كانت خطَّ دفاعٍ أول عن دول عربية عُرضة للابتزاز بعدما تحوّل الدعم الخارجي إلى حبلٍ في رقبتها. كما يُفترض أن يستوعب، وإنْ مُتأخرا، أن إسرائيل خطرٌ على المنطقة كلها وليس على الفلسطينيين فحسب، وأننا نتعامل مع كيانٍ بلا حدودٍ مرسومة، وحدودُه هي كل ما يستطيع أخْذَه.

إن عقوداً من التواطؤ على القضية الفلسطينية، وتسليم الفلسطينيين لدولة الاحتلال تبيدهم بالتقسيط منذ النكبة، ثم إبادتهم بالجملة في حرب غزة الجارية، بدأ يتكشّف ثمنه الفادح، على النظام العربي.

كل هذا التطاول، حتى يطرح نتنياهو إقامة دولة فلسطينية على الأراضي السعودية، لم يكن ليحصل لو استثمر النظام العربي في عناصر صمود الفلسطينيين، ودعَمَ مقاومتهم، ولم يُساوم بقضيتهم. إن الهبوط الخطير في الأفكار الذي فجّره ترامب، ويستثمر فيه مجرم الحرب نتنياهو، هو نتيجةُ حِسْبة خطأٍ في تقدير الدول العربية مجتمعة، وتفكيرها في إمكانية السلام مع دولة توسّعية احتلالية إحلالية.

الآن، ورغم ذلك، قد يكون مفيداً أن نستثمر، في هذه المرحلة الحسّاسة، في تدعيم بقاء النظام العربي واقفاً، ونُلْزِمَه بالمُعلن من رفضِه للتهجير، ليُحدثَ استدراكَ “ما قبل الكارثة”، بعدما بدأت دولٌ عربية تختنق تحت الموج العاتي الذي أطلقه ترامب.

جلس عبد الله الثاني أمام غرور ترامب، الذي لم يحترم ضيفَه وهو يطلب اقتطاع جزءٍ من أرض الأردن لتوطين الفلسطينيين، ليُعفي إسرائيل من أداء استحقاق كونها دولة قائمة بالاحتلال. عبّر ملك الأردن عن رفضه للتهجير، وأكّد أنه سيفعل ما تمليه عليه مصلحة بلده. وقبله، في 29 يناير، أكد السيسي عدم استعداده لمجاراة واشنطن في التهجير، مشدداً على رفض مصر لـ”أي إجراءات من شأنها التأثير على أمنها القومي”.

تأكيد عبد الله الثاني أنه “سيفعل ما فيه مصلحة بلده”، ورفض السيسي “أي إجراءات من شأنها التأثير على الأمن القومي المصري”، يُظهر إدراكا عربياً أن التهجير يضرّ الدول المستهدفة به بنفس قدرِ إضراره بالفلسطينيين. ولئن كان الفلسطينيون حاسمين في مواجهة خطط ترامب بمزيد من الصمود والتشبث بالأرض، فإن دولاً عربية تبلور موقفاً أساسه رفض إقامة وطنٍ بديل للفلسطينيين.

سيطرح النظام العربي خطّة لإعادة إعمار غزة دون تهجير الفلسطينيين. قد يقبلها المطوّر العقاري المهووس بالصفقات، وقد يرفضها طمعاً في المزيد. وستتفاعل الأمور حتى تستوي على وضعية يصعب التنبؤ بها. ووحدها الإمارات، حتى الآن، صرّح سفيرها في واشنطن أنه “لا يرى بديلا عن خطة ترامب”.

إلى ذلك الحين، وفي اعتقادي، سيكون خطأً أن يصوّب مناصرو الحقّ الفلسطيني، في هذا السياق، على النظام العربي الملتزم علناً برفض التهجير. الخطر الآن يوجد في واشنطن، ويجسّده ترامب، وتحرّكه آلة صهيونية خبيثة مصمّمة للتفجير والكيد، وليس في قصر الاتحادية في القاهرة، أو قصر رغدان في عمّان، أو غيرهما.

ومع ذلك، أدعم حقّ أيّ كان يُقدِّر أن المرحلة تستوجب مزيداً من الضغط على النظام العربي لإلزامه برفض التهجير.

وفكرتي لا تتقاطع بأي حالٍ مع دعوات نكوصيةٍ تسرّبت لعقود إلى العقل السياسي العربي تبرّر الانسداد السياسي وتتحجّج بالمخاطر الخارجية لتأجيل الدمقرطة وتحرير حقوق الإنسان. في عقلي ويقيني قضيةُ التحرّر واحدة، متلازمة ومتزامنة. فلا تحرير لفلسطين من الاحتلال إلا بالتحرّر من الاستبدادات.

سنبقى نطالب بحقّنا في الديمقراطية في أوطاننا، وسنتشبث بها مطلباً غير قابلٍ للتجزيء والتأجيل تحت أي ظرف. وسنواجه أيضا خطط تصفية القضية الفلسطينية ومشاريع ترامب بشأن “شراء” غزة وتهجير أهلها. ومقتنع أن تحقيق هذا الهدف الآني لا يمرّ، الآن، عبر تهشيم النظام العربي، بل تدعيمه ليفي بالتزاماته المعلنة والمصرّح بها برفض التهجير والتوطين.

وعلى هذا أساسا، أؤسّس لفكرة تالية، ترى بوضوح أن إسقاط مخطط ترامب سيكون بتداعيات استراتيجية لصالح الفلسطينيين. بصيغة أخرى: إن نجتْ القضية الفلسطينية من هذا المنعطف وأُسقط التهجير، وصمدت المقاومة، وصمدت دولٌ عربية في رفض تفجيرها من الداخل بالتوطين، ستؤدي إسرائيل ثمناً لكل ذلك. وهنا أرض المعركة الحقيقية. إن إفشال التهجير، بالنتيجة، هو رزعٌ لكل المُفجّرات في كيان دولة الاحتلال، التي لم تحظَ برئيس أميركي بكل هذا الاندفاع حتى صار يطرح نتنياهو إقامة دولة فلسطينية على الأراضي السعودية.

إفشال خطّة ترامب للتهجير سيضرب أسافينَ كثيرة في كيان الاحتلال. وهذا هدفٌ مظروفٌ بسياق سياسي آني، و”واجب الوقت” كما يُقال. وعليه، يكون تدعيم النظام العربي المتداعي، لرفض التهجير، فتلٌ في حبْل صمود قضية الفلسطينيين، وصونٌ لوحدة دولٍ عربية، وإفساحٌ للمجال (مع ما في هذه الفكرة من مثالية) أمام ممكنات علاج أعطاب هذا النظام بدفعه نحو مزيد من الدمقرطة والوحدة، إن تيقّن أن مصلحته في مصالحة الشعوب لا استعدائها والعدوان على حقوقها، وأنّ لا مصلحة يُدركها من الارتهان للخارج، وأن المقاومة خطٌ دفاع في مواجهة نزوع الهيمنة الإسرائيلية.

قصارى القول

كل ما يجري يثبت صوابية خيار المقاومة. فلسطين أمام ما يشبه “وعد بلفور” جديد، والمنطقة أمام مشهد “سايكس بيكو” آخر، تحدث عنه نتنياهو تحت عنوان “ترتيب جديد”. ومن يظنّ أنه آمنٌ من تغوّل إسرائيل يجب أن يراجع حساباته، ومن يتحالف معها يُفترض أن يكون الآن أكثر إدراكا أنهم يأخذون ولا يعطون، ضمن شهوة هيمنة لن تتوقّف، مدفوعةٍ بأوهام تفوّقٍ بدأت تتفكك منذ طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.

حتى الدولة المغربية نالها شرَرُ الابتزاز، حين سرّب إعلام إسرائيلي اسم المغرب وجهةً لتهجير الفلسطينيين. وإن كان القرار الصواب تجاهل التفاعل مع بالون الاختبار المسموم، لكن سيكون مهما مراجعة خيارِ التطبيع انسجاما مع الأوضاع المستجدّة، والتي تثبت باستمرار أن مجرمي الحرب ومرتكبي الإبادة لا يمكن أن يكونوا حلفاءَ موثوقين. وفي الوُسع أن نتذكّر كم منحنا نتنياهو من أسبابٍ للاعتقاد بأن إسرائيل تبتزنا بالصحراء المغربية، ولن تنصرف عن هذا النهج طمعا فيما هو أكثر مما جرى التوقيع عليه في اتفاق استئناف العلاقات. وأتمنى ألا يُباغتنا ترامب بواحدةٍ من “أفكاره”، خدمةً لإسرائيل.