آه يا تازة!

هل تعلمون أن تازة التي نردّد اسمها اليوم صباح مساء بحثا عن قافية بليدة، كانت في قلب لحظة تاريخية، كادت معها تصبح أول “دولة” يقيمها اليهود الذين سيتطوّر فكرهم تدريجيا نحو الصهيونية؟
هل تعلمون، والعهدة على المؤرخ المقتدر عبد الهادي التازي، أن الذي هجم عليها ليخلّصها من أن تكون “إسرائيل”، هو نفسه الرجل الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة العلوية، المولي الرشيد؟ هو الذي قضى على تاجرها اليهودي هارون بن مشعل الذي تقول الرواية نفسها إنه كاد يصبح مؤسسا لوطن الشتات اليهودي.
هل تعلمون أن مؤسسة الدولة العلوية هذا أقام عاصمة ملكه مؤقتا في مدينة تازة، واستقبل فيها مبعوث الملك الفرنسي “لويس الرابع عشر”، وبفضل أموال هارون بن مشعل التي صادرها، تمكّن من تسليح جيشه والقضاء على جيش أخيه محمّد ومن ثم التقدّم نحو مدينة فاس، حيث ولدت دسميا وفعليا الدولة العلوية القائمة في المغرب اليوم؟
هذه مجرّد أمثلة عن قصص غرائبية كثيرة تدور حول هذه المدينة المغبونة.
هناك مدنٌ تُولد بقرار، وأخرى تُضاء فقط لأن الضوء قرر المرور بها. ثمّ هناك تازة، المدينة الصامدة بين الجبال، التي لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك.
مدينة تازة التي باتت اليوم ترتبط بعبارة تنطوي على قلة حياء لا نهاية لها، صُنعت من صبرٍ جبلي؛ ومن دمٍ حفر في الذاكرة الوطنية اسمه المقاومة؛ ومن غصة ترفض أن تُنسى.
تازة هذه ليست نكتة، كما يروّج لها بعض الكسالى، وليست مجرد نقطة عبور بين فاس ووجدة، ولا مجرّد مصنع للصابون، ولا أبعد نقطة يضرب بها المثال في مقولة “ما بعيدة غير تازة”.. بل كانت ذات زمن قلعة الدولة، حين لم تكن الرباط عاصمة بعد، بل مجرّد مرفأ ثانوي لقوارب السلاويين.
لكن، ويا للمفارقة، حين اشتدّ العدوان على غزة، خرج بعض صبيان السياسة من جحورهم، ملوّحين ببلاغة ميتة، ليطلقوا شعارا مسموما، ينسبه البعض إلى الملك الحسن الثاني، يقول: “تازة قبل غزة”.
لم يكن ذلك نابعا من حبّ لتازة، ولا من غيرة وطنية على حالها، بل من محاولات بائسة لتحويل مسارات التضامن، ومقايضة الهم الإنساني بالمزايدات الشعبوية.
هل كانت تازة في يومٍ من الأيام في منافسة مع غزة؟
وهل طلب أهلها يوما أن يُفَضَّلوا على غيرهم من الجرحى والمقاومين؟
الحقيقة أن تازة اليوم تُهان مرتين:
مرة حين تُترك للنسيان، وأخرى حين تُستدعى كشعار في معركة لا تخصها.
تازة التي لم تطلب إلا ماء صالحا للشرب، ومستشفى لائقا، وطريقا لا تنتهي في الهاوية، تجد نفسها فجأة جزءا من مناظرة تافهة حول أولويات الوطنية.
تازة تهان حين تُنكأ جراحها المفتوحة إلى اليوم، وهي التي جنت عليها الجغرافيا بأن جعلتها مجرّد معبر بعدما ظلّت على مر التاريخ بمثابة البوابة المنيعة للمغرب، وظلمها التاريخ بأن جعلها في الوقت نفسه المدينة التي بعث السلطان مولاي يوسف رسالة تهنئة للجنرال ليوطي عندما تمكّن من دكّ حصونها واقتحامها واحتلالها عام 1914، وإليها توجّه محمد الخامس للاحتفال رفقة المقاومين بعمليات جيش التحرير التي انطلقت منها أثناء نفيه، وشكّلت أكبر ورقة ضغط حملت فرنسا على التسريع بالانسحاب عبر اتفاق بدل مواجهة ثورة شاملة.
تازة هي المدينة التي كان الملك الحسن الثاني يزورها رسميا، ويحتفي بطبيعتها ويوشّح شخصياتها بالأوسمة، ويوصي بها خيرا، وعندما شاءت الصدفة أن يخرج الانقلابيون من مدرسة اهرمومو القريبة منها، ويقودهم ذوو أصول تازية أمثال الجنرال المذبوح، باتت اللعنة تسكنها والتنمية تهجرها.
المفارقة اليوم أن رئيس الحكومة السابق، عبد الاله ابن كيران (وعائلة بنكيران تازية الأصل مهما تمسّحت بانتمائها الفاسي)، كانت ولايته قد شهدت في أسابيعها الأولى، وتحديدا في فبراير 2012، انتفاضة شبابية عارمة، ذكّرت البعض بلحظات أليمة عالقة بالذاكرة، ولم يكن وراء هذا الانتفاض سوى مطالب اجتماعية بسيطة وبدائية: مدرسة ومستشفى وجامعة وفرصة شغل.
لكن كل قطارات المصالحة والتنمية ظلّت تخلف موعدها مع تازة.
حتى عندما انطلقت أوراش مشروع “الحسيمة منارة المتوسّط”، وأبدت الدولة المركزية نية طي صفحة الماضي مع الريف المنكوب، وتجاوز الذكريات الأليمة، كانت تازة مجرّد معبر حتمي لشحنات المواد الأولية…
وحده النزيف الديمغرافي استقر باقيا فيها، نكاية في ماضيها وحاضرها.
كم مرة وجب أن نعتذر لتازة؟
وكم مرة وجب أن نكتبها لا كعنوان للمزايدة، بل كجغرافيا تنزف بصمت؟
كيف لمدينة عرفت أن تكون مفترق إمبراطوريات، من المرينيين إلى الفرنسيين، أن تصير اليوم محطة عبور إلى لا شيء؟
كيف لها أن تُختزل في عبارة على لسان ساخر، بينما شوارعها تحكي ألف ملحمة من التهميش؟
لا أحد ممن ينطقون اسم تازة اليوم، للضرورة الشعرية، خدمها، ولا أحد أنصفها. وحدهم أبناؤها، في صمتهم، وفي هجرتهم، وفي وجعهم، يعرفون حجم الجرح.
تازة لا تطلب صدقة، ولا تُقايض موقفها الوطني.
تازة تريد فقط أن تكون، وأن تعود إلى خريطة العدالة.
تازة تريد منكم أن تكفّوا عن استعمال اسمها كذريعة للفراغ، أو كقناع للتقاعس.
من أراد أن يدافع عن تازة، فليتحدث عن نزيفها السكاني، عن شبابها الذي يموت في صمت، عن نسائها اللواتي يلدن على الطريق، عن أحيائها التي تُقهر بلا أدنى مقومات الكرامة.
ومن أراد أن يدافع عن غزة، فليتذكّر أن تازة حين قاومت الاستعمار، وواجهت جيشين فرنسيين أطبقوا عليها كفكّي كماشة من الشرق والغرب، بدعم ومساندة مخزنيين، لم تكن تنتظر خطابا رسميا، ولا شعارا رنّانا.
لقد كانت تقاوم لأنها ترفض الركوع. وتاريخها يشهد.
آه يا تازة… سامحينا لأننا لم نعرف كيف نردّ لك اعتبارك.
سامحينا لأننا سمحنا للرداءة أن تنطق باسمك، وللشعارات أن تسرق نَفَسك.
سامحينا لأننا لم نفهم بعد أنك مرآة هذا الوطن، بكل ما فيه من أعطاب.
ليس لك أن تكوني قبل غزة، ولا بعدها. لك فقط أن تكوني كاملة.. شامخة.. كما كنتِ دائما.