تجّار السياسة

تحدّثت أمس في مقال بعنوان “ملايير الحمامة” عن إشكالية الاعتماد على المال الخاص في حالة حزب التجمّع الوطني للأحرار، باعتباره الحزب الوحيد ضمن الأحزاب السياسية المغربية، الذي يشكّل التمويل الذاتي القسم الأكبر في موارده، مقارنة بالتمويل العمومي.
واليوم تعالوا نتقدّم خطوة إضافية لنطلّ على أوجه صرف هذا المال الذي تحصل عليه الأحزاب السياسية، ويستأثر فيه حزب الحمامة لوحده بما بين مليارين وثلاثة ملايير سنتيم من الأموال الذاتية سنويا، بينما لا يتجاوز أقرب الأحزاب إليه من حيث التمويل الذاتي، عتبة 300 مليون سنتيم سنويا.
الملحق السادس ضمن التقرير السنوي الجديد الذي أصدره المجلس الأعلى للحسابات هذا الأسبوع حول مراقبة مالية الأحزاب السياسية، يقدّم معطيين اثنين على الأقل، أبسط ما يمكن أن يقال عنهما أنهما مخيفان.
حزب الأحرار أنفق في سنة واحدة (2023)، أكثر من مليار و140 مليون سنتيم، في تنظيم مؤتمرات وتظاهرات، و530 مليون سنتيم كمساعدات مالية قدّمها لجمعيات.
لاحظوا معي هذا المسار: أموال خاصة تخرج من “شكّارة” من يسيطر على الحزب أو “مول الحزب”، وتدخل حساب الهيئة السياسية المفترض فيها أنها تخوض منافسة سياسية وانتخابية مع باقي الهيئات، لتخرج هذه الأموال في شكل مؤتمرات وتظاهرات بكلفة خيالية بالنسبة لباقي الأحزاب، مع ما يعنيه ذلك من تعبئة وحشد للكتل الناخبة والمؤيدين المحتملين في المرحلة الانتخابية، بينما يؤول قسم آخر من هذا المال إلى حسابات جمعيات ستقوم بتصريفه في شكل مساعدات وخدمات يستحيل تخليصها من طابعها السياسي بما أنه تمويل حزبي.
وتبديدا لأي غموض عند القارئ بخصوص مسألتي تنظيم المؤتمرات والتظاهرات ودعم الجمعيات، فإن حزب التجمع الوطني للأحرار يكاد يحتكر ممارستهما، لأن مجموع ما أنفقته الأحزاب السياسية المغربية كلها في خانة تنظيم المؤتمرات والتظاهرات هو مليار و400 مليون سنتيم، حصة حزب الحمامة منها أكثر من مليار و140 مليون سنتيم.
كما أن مجموع ما قدّمته الأحزاب السياسية المغربية كمساعدات مالية للجمعيات، هو 536 مليون سنتيم، أنفق حزب الحمامة لوحده 530 مليون منها، أي كلها تقريبا.
في المحصّلة، نحن أمام حزب “خاص” (privé)، يتلقى سنويا الملايير من الأموال الخاصة، بينما يعيد أموال الدعم العمومي المرتبط بمساطر دقيقة للإنفاق والمحاسبة، إلى خزينة الدولة، ليستثمر أمواله في شراء التأثير والتعبئة السياسيين، عبر تنظيم تظاهرات ومؤتمرات باذخة، وتقديم المساعدات المالية لجمعيات مقربة.
إن تحليل مدى قدرة حزب سياسي على تعبئة المال الخاص وتحويله إلى عائد سياسي ملموس، انطلاقا مما جاء في تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2023 وتقارير السنوات السابقة، يسلط الضوء على أحد أخطر تجليات اختلال التوازن في المشهد الحزبي المغربي.
فنحن لا نتحدث فقط عن تفاوت في الموارد المالية، بل عن هندسة جديدة للسلطة السياسية تُبنى عبر المال، وتعيد تشكيل علاقة الأحزاب بالمجتمع والدولة على أساس النفوذ المالي بدل الشرعية النضالية أو التأطير الجماهيري.
في التفاصيل، يظهر أن حزب التجمع الوطني للأحرار لا يكتفي بحيازة أكبر حصة من التمويل الذاتي من خلال الهبات والتبرعات الخاصة، بل ينجح في توظيف هذه الموارد لإنتاج تمظهرات فعلية للنفوذ السياسي، من قبيل تنظيم المؤتمرات واللقاءات الحزبية المكلفة، والقيام بأنشطة ميدانية واسعة، والتبرع لجمعيات وهيئات مدنية كما هو موضح في الملحق السادس، بما يقارب نصف مليار سنتيم في سنة واحدة.
هذا الاستخدام المكثّف للمال الخاص الذي لا تستطيع باقي الأحزاب الولوج إليه، والذي يربط التمويل بالتحرك السياسي والمجتمعي، يمنح الحزب عدة امتيازات منها:
- الحضور الدائم في الفضاء العمومي: المؤتمرات واللقاءات الحزبية المنظمة بشكل دوري في مختلف جهات المغرب، تمنح الحزب إطلالة مستمرة على الناخبين والرأي العام، في حين تظل الأحزاب الأخرى في حالة غياب لأسباب عديدة من بينها العجز المالي؛
- الاختراق الاجتماعي عبر الجمعيات: حين تتلقى الجمعيات تبرعات سخية من حزب معين، فهي لا تحصل فقط على دعم مادي، بل تدخل بشكل غير مباشر في دائرة التأثير الحزبي. هكذا، يتحول العمل الجمعوي إلى امتداد ناعم للنفوذ السياسي؛
- المردودية الانتخابية للاستثمار المالي: بتنظيم اللقاءات والمناسبات الكبرى واستقطاب الكفاءات وتوزيع “الإحسان السياسي”، يتحول المال إلى آلة انتخابية فعالة، تضمن التجذر في الأرض واستمالة الفئات المستهدفة، وهو ما لا تستطيع الأحزاب الضعيفة ماديا مجاراته؛
- الشرعنة الشكلية والتفوق الرمزي: يمنح التوظيف المكثف للمال في أنشطة حزبية ومجتمعية مشروعة قانونا، الحزب صورة الحداثة والفعالية والتنظيم الجيد، مما يُغري حتى الإعلام بمتابعته، ويُعزز حضوره في خطاب الدولة كـ”شريك نموذجي”.
لكن هذا “النجاح” الظاهري يحمل في طياته خللا جوهريا، يتمثل في أن النفوذ لا يُبنى هنا على النقاشات الفكرية أو على البرامج السياسية أو حتى على استجابة الحزب لمطالب المجتمع، بل على إمكانية الدفع والتنظيم والتبرع.
بمعنى أن السياسة تتحول إلى سوق، ومن يملك رأس المال يملك أدوات السيطرة والظهور والتأثير.
والأخطر من ذلك، أن هذا النموذج يُقصي كل المبادرات السياسية الجديدة، ويجعل من شبه المستحيل على حزب ناشئ أو تيار شبابي أن يخوض غمار المنافسة العادلة، لأن شروط الولوج إلى الحلبة أصبحت مرتبطة بميزانية تسويقية وتنظيمية لا تتوفر إلا لمن يملك أو يُموّل بسخاء.
وحتى لا يقال إن الأمر قد يكون مجرّد حالة استثنائية لحزب ذو طبيعة خاصة، أشير إلى المعطيات التي تفيد أن المال بات معطى مهيكلا للمشهد السياسي، منها كون 92 في المئة من مجموع الموارد المالية المصرح بها خلال سنة 2023 تركزت بين أيدي تسعة أحزاب فقط، من أصل 33 حزبا معترفا به قانونيا.
ولا تقف مظاهر التفاوت عند هذا الحد، بل إن ثلاثة أحزاب المشكّلة للأغلبية الحكومية الحالية —هي التجمع الوطني للأحرار، وحزب الاستقلال، وحزب الأصالة والمعاصرة— استحوذت لوحدها على ما يفوق 70 مليون درهم من أصل 105 ملايين، أي أكثر من ثلثي الموارد المالية للأحزاب المغربية مجتمعة.
هذا مؤشر بالغ الدلالة على تمركز القوة المالية والتنظيمية والسياسية بين أيدي حفنة من الأحزاب، مما يجعل منها فاعلا مهيمنا لا بفضل موقعها في أجهزة الدولة فقط، بل أيضا بفضل قدرتها على ضخ المال في مختلف واجهات العمل الحزبي: من الترويج الإعلامي إلى التعبئة التنظيمية مرورا بالوجود الترابي والأنشطة الميدانية.
هذا الواقع لا يمكن اعتباره مجرد تفاوت تقني أو نتيجة تلقائية لحجم هذه الأحزاب وتأثيرها، بل هو انحراف بنيوي في توزيع الموارد السياسية، بما يُفرغ مبدأ التعددية الحزبية من جوهره الديمقراطي.
فحين تشتغل قلة من الأحزاب تحت مظلة تمويل ضخم ومستقر، تتحول إلى آلات انتخابية جبارة تمتلك القدرة على حيازة وسائل الإعلام، واستقطاب النخب، وتنظيم الأنشطة على مدار العام، في حين تجد أحزاب أخرى نفسها في وضعية فقر سياسي، بالكاد تغطي مصاريف مقراتها وتدبير شؤونها الإدارية، إن وجدت لها مقرات أصلا.
هكذا تتحول الشرعية السياسية من وظيفة تؤسسها الديمقراطية، إلى امتياز يُشتَرى بالمال، ويُقايض بالحظوة والعلاقات، لا بالتمثيلية والقدرة التأطيرية.