الكرة.. ضد المقاطعة مع المحاسبة!

صدرت مؤخرا دعوات لمقاطعة مباريات المنتخب الوطني ومعها كلّ ما يتّصل بتنظيم كأس إفريقيا وكأس العالم، آخرها الدعوة إلى مقاطعة مباراة المنتخب الوطني ضد نظيره للكونغو الديمقراطية ليلة أمس الثلاثاء 14 أكتوبر 2025.
واكتسبت هذه الدعوات زخما خاصا بعدما صدرت عن شباب “جيل Z” الذين أعادوا السياسة إلى الشارع، احتجاجا على تغليب منطق الكرة وتنظيم تظاهراتها بدل تطوير خدمات أساسية كالصحة والتعليم.
سأبدأ من حيث يجب: المقاطعة والدعوة إليها حق مشروع تماما كحضور الملاعب، سواء بسواء. الرأي لا يجرّم، ولا ينبغي أن يتحوّل إلى ذريعة للتخوين أو الإقصاء أو محاولة الإعدام المعنوي لأي كان.
من حقّ من يرى في كرة القدم فرجة ورافعة رمزية وتنموية أن يدافع عن اختياره، ومن حقّ من يرى أن الكلفة لا تناسب أولويات الناس أن يقول ذلك جهارا نهارا.
أخطر ما يمكن فعله الآن هو تحويل الخلاف في الرأي إلى انقسام يغذّي الشوفينية ويبدّد الطاقة الأخلاقية التي حرّكت الشارع ويدخلنا في متاهات لا طائل منها.
وما شدّني شخصيا في بلاغ الداعين للمقاطعة من بين “جيل Z” أنه حافظ على اللياقة: دعم صريح لأسود الأطلس وتعبير عن حب للوطن، مع جملة بسيطة تقول إنّ المدرّجات الخالية رسالة احتجاج حضارية.
هذا خطاب محترم، ويستحقّ أن نردّ عليه باحترام مماثل، لا بنبرة “إما معنا أو ضد الوطن”، بل بحجج واقعية تجعل الخلاف مثمرا.
هنا أضع موقفي بوضوح: ملف الكرة وتظاهراتها القارية والدولية التي سنحتضنها دُبّر بغير قليل من المنطق السلطوي والدعاية الفجّة والمضللة والضجيج الذي يمنع بروز أي صوت مستفسر أو ناقد؛ لكنني لست مع الدعوة إلى مقاطعة المنتخب ولا تظاهرات بحجم “الكان” و”المونديال”، وفي الوقت نفسه أدافع عن حقّ من يحملون هذا الرأي، في الوجود والتعبير وحتى التنفيذ.
لست ضد هذا الموقف لأن الرياضة مقدّسة أو لأن “الفرجة” تسكت المعدة الفارغة، بل لأننا، ببساطة، أمام التزامات قطعتها الدولة وركِبت عليها منظومة من العقود والآجال والاستثمارات… ولكن أيضا ودعونا نقولها دون “خوف من المجتمع”، لأن الرياضة لا تخلو من إمكانيات وهوامش للربح منها ومعها، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو التنمية.
لنلق نظرة على حالنا اليوم: الملاعب، باستثناء الدار البيضاء، شيِّدت أو شارفت؛ وعقود طرق ومطارات وتهيئة حضرية انطلقت؛ وسلاسل توريد ووظائف مؤقتة دارت عجلاتها. في هذه المرحلة المتأخرة، إلغاء المسار لا يعني تحويل كل درهم مخصص لأشغال الملاعب إلى مستشفى ومدرسة. المال الموجّه للمنشآت العامة والاستثمارات ليس دلو ماء نفرغه هنا فنملؤه هناك؛ قيوده القانونية، وارتباطاته التمويلية، وتخصيصاته القطاعية، وشرط تدفّقه أعقد من ذلك بكثير.
هذه حقيقة يجب أن تقال للشباب بوضوح، ليس عبر “جعجعة وطنية”، بل بمنطق الاقتصاد وسلاسل القيمة وتدفّقات الاستثمارات وضغوط الخارج في مقابل وإكراهات الداخل.
ثمّة أمر آخر لا يقلّ أهمية: قرار احتضان ال”كان” والمونديال لم ينزل علينا ليلا كبند سرّي. بل قضينا سنوات ونحن نسمع عن احتضان “الكان” و”المونديال”، وتوزّعت مواقفنا بين مطبّل ومبتسم ببلاهة وصامت.
وقبل هذا وذاك، كنّا كأفراد وهيئات، مدعوّين للمشاركة والتأثير عبر صناديق الاقتراع ومؤسسات الوساطة من أحزاب وجمعيات ونقابات ومنصات مجانية للتعبير والنشر، وهي القنوات الحتمية لتمرير وتنفيذ مثل هذه القرارات، فاخترنا في الغالب الانسحاب والعزوف والفرجة السلبية.
هذا لا يسقط شرعية الاعتراض اليوم، ولكنه يضعنا أمام نقد ذاتي ضروري ما دمنا في سياق خروج شبابي فتح شهيّتنا على الديمقراطية: لا يمكن أن نطالب بديمقراطية كاملة كأنها ستنزل علينا فوق مائدة فوقها سمك وخبز، ثم نؤجّل استعمال أدواتها، ونطلب من الشارع وحده أن يصنع السياسة.
إن كان ثمة درس من “جيل Z”، فهو أنّ الصوت حين يرتفع يحرّك الجبال. فلنستثمر هذا الدرس في تحويل “الكان” و”المونديال” إلى رافعة مساءلة، وتحويل السرعة والكفاءة العالية في إنجاز مشاريع الكرة إلى حجّة على المدبّرين لا لعنة على الجميع. كما نجحوا في بناء ملاعب عالمية في ظرف قياسي علينا أن نطالبهم بكل الطرق السلمية والمدنية ببناء المدارس والجامعات والمستشفيات وتجهيزها وتشغيلها بالسرعة والكفاءة نفسيهما.
علينا أن نطرح الأسئلة التي لم يفت أوان طرحها: كم شغلا دائما ستترك هذه الأوراش؟ ما حصّة المقاولات الصغرى والمتوسطة؟ أين لوائح الصفقات؟ ما خطّة الإرث الذي سيتبقّى لكلّ مدينة مونديالية؟ وما محلّ المناطق غير المونديالية من الإعراب؟
هذه أسئلة أقوى بكثير من شعار المقاطعة.
يقال إنّ الرياضة “ترف يشتّت الأولويات”، وإن الكرة “أفيون الشعوب”. وهي قد تكون كذلك بالفعل حين تدار بلا جدوى ولا شفافية. لكنها أيضا صناعة كاملة تدور حولها منظومات نقل وإقامة وسياحة وخدمات رقمية وبث تلفزيوني وعقود رعاية… وإذا كان هناك من فكّر في تدجيننا وإلهائنا والسيطرة علينا بالكرة، فلنجعل هذه الأخيرة أداتنا في هجوم مضاد، يعيد إليه الكرة تقذفها أسئلتنا المشروعة ومطالبنا العادلة بالكشف عن مصير الثروات وترتيب المسؤوليات.
دول إفريقية متقشِّفة الموارد بنت لنفسها ميزة تنافسية من استضافة التظاهرات، لا لأنها أغنى، بل لأنّها حوّلت المناسبة إلى نشاط اقتصادي منضبط: جداول إنجاز منشورة، وعقود أداء مع البلديات، وحصص تشغيل محلية، والتزام بيئي يقيس الأثر ويحدّ من الهدر.
لسنا أقلَّ قدرة على فعل ذلك. السؤال ليس: “لماذا نحتضن؟” بل كيف نحتضن على نحو ينفع الناس الآن ولاحقا؟ هنا تبدأ السياسة الحقيقية.
لا أهوّن من الغبن الاجتماعي ولا من الفجوات الفاضحة في الصحة والتعليم. بل أقول إن تحويل “الكان” و”المونديال” إلى ذريعة لإيقاف كل شيء يفوّت علينا فرصة الضغط من أجل مقاربة عقلانية تربط الرياضة بالخدمات: تذاكر مخفّضة للطلبة وعديمي القدرة الشرائية، وحصص مضمونة لشركات محلية، وشفافية الصفقات عبر بوابة رقمية، وتخصيص نسبة ثابتة من مداخيل الرعاية والبثّ لصندوق اجتماعي يموّل تجهيزات صحية وتعليمية في الجهات الأكثر هشاشة، ومراقبة مواطنة…
هذا ميثاق عمليّ يمكن أن يتبنّاه الجميع: من يحضر ومن يقاطع. وفي الحالتين، تكون الرسالة واحدة: لا شيك على بياض بعد اليوم. والملاعب الفخمة لا يمكن أن تموّل من ضرائبنا ثم تتحوّل إلى مشهد يضاعف حسرتنا وشعورنا بالتهميش والحرمان.
الرياضة هي أيضا رأسمال رمزيّ. المنتخب الوطني، بعيوبه ومحاسنه، صار مساحة تعارف جماعي وسردية نجاح مشترك ومطيّة لحلم موحّد يطلق الطاقات ويحررها.
الإنجازات التي حقّقها منتخبنا هي حجة لنا لا علينا، دليل على أننا نستطيع عندما تتاح لنا الفرصة وتفتح أمامنا أبواب التنافس العادل والشفاف، ولا ينبغي أن نكسرها بعصبية المواقف.
اللاعبون ليسوا خصوما سياسيين، بل أكاد أجزم أن أبطالا من “جيل Z” أمثال حكيمي وزياش وبونو وراء إحياء شعورنا الجماعي بالقدرة على النهوض. والمدرّجات ليست بديلا عن الشارع السياسي، كما أنّ الشارع ليس خصما للملعب. يمكن للاثنين معا أن يشتغلا في اتجاه واحد: ضغط اجتماعي يحمي الأولويات، ونجاح تنظيمي يوسِّع القدرة التفاوضية للمغرب ويجلب فرصا لا تأتي في مناخ الانكفاء.
أعرف أنّ الثقة مجروحة، وأنّ الناس سئموا من وعود لا تنجز. لذلك أدافع عن خيار ثالث بين المقاطعة والتصفيق: دعم المنتخب والضغط في الآن نفسه.
نحضر لنربح المباراة، ونطالب بالإفراج عن لوائح الصفقات.
نحتفل بهدف جميل، ونطلب لوحة قيادة لأشغال المستشفيات والمدارس في المدن غير “المونديالية”.
نقول نعم للفرجة، ونعم للمساءلة.
بهذا فقط تتحوّل التظاهرات الكبرى من صك دعاية إلى محك حكامة.
إذا أردنا حقا أن ننتصر للأولويات، فلنحوّل “الكان” و”المونديال” إلى امتحان علني لجدوى الإنفاق، وإلى ورشة تعلّم ديمقراطي نعرف فيها كيف تدار المشاريع الكبرى؟ وكيف تصان البيئة؟ وكيف نضمن الولوج العادل والمتكافئ؟ وكيف تتعايش اللّذة الجماعية مع الحقوق الاجتماعية؟ هذا أسهل بكثير من إشعال حرب هويّات حول مقعد في المدرّج.
وكما علّمنا “جيل Z”، الصوت حين يكون أخلاقيا وعاقلا لا يطفئه نشيد في الملعب، بل يجعله أعلى وأوضح.
لذلك، أرفض مقاطعة المنتخب لا لأنّ كلّ شيء على ما يرام، بل لأننا قادرون على تحويل هذه اللحظة إلى مكسب مزدوج: فرجة لا تخجل من نفسها، ومساءلة لا تسقط حق أحد. نكسب في الميدان، ونربّي سياسة جديدة خارج الميدان.
اليأس والانسحاب هما أخطر ما يمكن أن يصيبنا، والباب مفتوح أمامنا اليوم مع شباب :”جيل Z” ومنتخبه الأسطوري الذي كشف وجهنا المشرق استخرج من القائمين على شؤوننا دليلا على أن المستحيل ليس مغربيا.
وإذا كان لا بدّ من شعار يختصر الموقف، فليكن هو: “قلوبنا مع الأسود… وعيوننا على التنمية”.