story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الجيل الذي أيقظنا!

ص ص

ونحن نقف على حافة نهاية 2025 ونُطلّ منها على 2026، لا يحقّ لنا أن نتجاهل حقيقة واضحة:

الحدث الذي أسر قلوبنا وحبس أنفاسنا وكسر مرايانا غير المصقولة ووضعنا وجها لوجه أمام مرآة صافية، كان ذلك الاحتجاج الشبابي الذي قاده آلاف من خيرة شبابنا، فأشعل فتيل الأسئلة الكبيرة، وأعاد إلينا، ولو للحظة، الثقة في المستقبل، وفي القدرة على الحلم خارج ما تعدنا به الساحرة المستديرة.

لهذا، حين نقول إن “جيلZ” هو شخصية السنة، فنحن لا نبحث عن عبارة رنانة تُزيّن الغلاف، ولا عن فكرة سهلة تُرضي حماس اللحظة. بل نقول ذلك لأن هذا الجيل أجبرنا، دون استئذان، على الاعتراف بمكامن ضعفنا وفشلنا، وعلى تفحّص فصول مدارسنا، وقاعات مستشفياتنا، وممرّات إداراتنا، وسقف كرامتنا اليومية.

جيل أجبرنا على تذكّر النقاش الأصلي الذي تواطأنا جميعا على طيّه في ورق النسيان: معنى العقد الاجتماعي، وحدود الوثيقة الدستورية، وما تعنيه توليفة المؤسسات والقوانين والنظم الجامعة حين تنفصل عن الإحساس بالعدالة والجدوى.

“جيل Z” شخصية السنة لأنه رفع الغطاء عن حجم أحلامنا، ثم قدّم ثمن ذلك من حريته وسلامته بين اعتقال وإدانة و… قتلى برصاص حي.

لذلك لا معنى لأن ننصب أشجار أعياد الميلاد، وندُسّ هدايا “بابا نويل”، ونقضم قطع الحلويات ونحن نعبر نحو سنة جديدة، دون أن نقف أمام هذه الشخصية التي مرّت بنا بسرعة ربما، لكنها تركت فينا أثرا لن يزول.

من حسن حظّ هذا النقاش أن بين أيدينا اليوم ما يسمح بأكثر من وقفة تحية وتقدير، بل بما يتيح استلهام الدروس واستيعاب العبر.

هذا العدد الخاص من “لسان المغرب” لا يستند إلى انطباعات مرتجلة، ولا يتّكئ على رغباتنا في ما نحب أن يكون عليه المجتمع، بل يبني معناه على نتائج دراسة ميدانية أنجزت بكفاءة عالية، وتتبّعت تحوّل المواقف كما تُلتقط حركة الطقس.

بين أيدينا اليوم استطلاع رأي أنجز بين 5 و27 أكتوبر 2025، بعينة تمثيلية اختيرت بتوازن كامل بين النساء والرجال، وتمثيل مجالي متعدد المناطق، بما يضمن قراءة وطنية لا تختزل المزاج في مركز واحد ولا في مدينة بعينها.

والأهم في هذه الدراسة ليس رقمها ولا هندستها، بل جرأتها المنهجية: أنها لم تكتف بصورة ثابتة للرأي العام، بل تتبّعت المؤشرات عبر محطات زمنية متتالية، وفتحت نافذة نادرة على ما يمكن تسميته “السلوك السياسي اللحظي”.

أول ما تقوله النتائج بوضوح نادر هو أن المغاربة تعاطفوا ودعموا احتجاجات “جيل Z”، بما يناهز ثلاثة أرباعهم تقريبا، لكن هذا التأييد نفسه درجات وطبقات. وفي المقابل توجد أقلية معتبرة غير مؤيدة، لكنها هي الأخرى ليست كتلة واحدة.

نحن أمام مجتمع يميل إلى دعم الاحتجاج، لكن هذا الميل ليس صخرة صماء، بل “بارومتر” حساس للسياق. وهنا يدخل أثر الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية كمنعطف. فبعده مباشرة يسجل دعم المظاهرات هبوطا ملموسا في المدى القريب، ثم يستعيد المؤشر جزءا من قوته لاحقا دون أن يمحو أثر الانخفاض الأول بالكامل.

والرسالة التي يبدو جزء من المغاربة وقد التقطوها، لا تبدو وكأنها “إنهاء” للاحتجاج، بل “تبريد” مؤقت للحماس، وإعادة ترتيب الأولويات، وتوجيه النظر نحو معنى آخر للّحظة.

في موازاة ذلك، تكشف الدراسة صورة نقدية قاسية تجاه أداء الحكومة الحالية. عدم الرضا هو الغالب، والثقة في قدرتها على التدبير ضعيفة. صحيح أنه ومباشرة بعد الخطاب الملكي ترتفع مؤشرات الرضا النسبي والإحساس بقدرة الحكومة، لكن الدراسة لا تقدّم ذلك كتحول إلى مصالحة ولا كإعلان نجاح، بل كتخفيف مؤقت من حدّة الحكم، وفتح نافذة نفسية تسمح لبعض المستجوبين بإعادة تقييم زاوية النظر.

هذا النوع من التعديل في المزاج يفسر كثيرا السلوك السياسي المغربي. الناس لا ينسون بسرعة، لكنهم قد يغيّرون طريقة الحكم حين تتغير “الرسالة الكبرى” التي تُقرأ بها اللحظة.

أما جوهر الصراع داخل الرأي العام كما تلتقطه الدراسة، فليس “مع الاحتجاج أو ضده” فقط، بل بين تصورات مختلفة للمخرج وحدود الشرعية. المزاج العام للمغاربة يميل إلى استمرار المظاهرات أكثر مما يميل إلى وقفها، لكن هذا الميل ينخفض بشكل مفاجئ بعد الخطاب، وترتفع فكرة الإيقاف مؤقتا، ثم تعود المؤشرات إلى تذبذبها.

وبين هذا وذاك، تبدو القاعدة الأخلاقية الأكثر قبولا هي صيغة “الاحتجاج مشروع لكن دون عنف”. والموقف العام يطلب حماية السلميين، وتدخل أمني ضد العنف فقط، واستمرار بلا فوضى.

لكن المشهد لا يكتمل دون رؤية ما وراء الاحتجاج: أزمة الثقة في الوساطة السياسية التقليدية. فجزء معتبر من المستجوبين لا يرى أن أي حزب سياسي يملك حلا ذا مصداقية، وأن الأزمة أعمق من حلول جاهزة، وأن مشاكل المغرب لا تُحل على المدى القصير.

هنا يتولد مزاج “واقعية مُرّة” يدفع الناس إلى التقاط بدائل مختلفة. أحيانا يرفع مطلب استقالة أو إعفاء، وأخرى يقف في انتظار الانتخابات، وثالثة يستسلم لإغراء حكومة خبراء… وقد نصادف قراءات أعمق تتحدث عن تغيير الذهنيات أو حتى تغيير النظام السياسي لدى أقلية.

والمعنى ليس أن المجتمع المغربي حسم أمره، بل أنه يبحث بقلق عن طريق للخروج، ويجرّب الأفكار كما يجرّب المرء مفاتيح كثيرة لباب لا يفتح بسهولة.

ثم تأتي اللمسة التحليلية لهذا الاستطلاع، لتجعل المشهد أكثر وضوحا. المغاربة الأغنى يميلون أكثر إلى الولاء وتفضيل النظام، والطبقات الوسطى أقرب إلى التغيير، والفئات الشعبية، ومعها جل الشباب والنساء، أقرب إلى لغة الخيبة والاستقالة واللاجدوى.

هذه الدراسة لا تمنحنا أرقاما فحسب، بل تمنحنا مرآة لوعي سياسي يعيش على إيقاع التحولات السريعة. يبرد حينا، ثم يستعيد جزءا من حرارته، ويظل يبحث عن توازن بين “حق الاحتجاج” و“هاجس الاستقرار”، بين “محاسبة الدولة” و“محاسبة المجتمع”، وبين “المطلب الفوري” و“المخرج المؤسسي المؤجل”.

من هنا تنبع فكرة “جيل Z شخصية السنة” ليس بوصفها تكريما عاطفيا، بل بوصفها تسمية دقيقة لشيء حدث لنا جميعا: جيلٌ جعلنا نرى أنفسنا، لا كما نحب أن نبدو، بل كما نحن في الحقيقة.

جيلٌ وضع سؤال المستقبل على الطاولة دون أن يضمن لنا الإجابة، وأجبرنا أن نعترف بأن الوطن ليس فقط نشيدا وحماسا ونتائج مباريات، بل مدرسة ومستشفى وعدالة وقانون ومعنى مشترك للحياة.