story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

سيون أسيدون.. مناضل مغربي نذر حياته لمناهضة الفساد وإنهاء احتلال فلسطين

ص ص

“اسمي يعني إنشاء الرواط بين الناس”. هكذا قال سيون أسيدون في إحدى حلقات بودكاست “ضفاف فنجان” على منصة “صوت المغرب”. جملة تختصر مسار رجلٍ ظلّ طوال حياته ينسج الخيوط بين الفرقاء السياسيين، ومختلف أصوات العدالة والحرية، قبل أن يرحل تاركًا وراءه دائرة واسعة من الوفاء، تمتد من أقصى اليسار إلى اليمين.

تجسد اسمه الأمازيغي “أسيدون” (من يصنع الروابط)، طوال حياته، فقد نسج روابط بين ماضي الوطن في زمن الاستقلال وسنوات الجمر والرصاص وحاضره، وبين المغاربة وقضية فلسطين، وبين مناضلين من مشارب فكرية متباينة جمعه النضال من أجل الحرية والعدالة.

حتى لحظةٌ وفاته التي حانت يوم الجمعة، جمعت عليه مشاعر حزن من إسلاميين ويساريين وليبراليين، وكأنّ الرجل في رحيله يكرّس ما عاش من أجله: خلق الروابط بين الناس.

النشأة والدراسة

وُلد سيون أسيدون سنة 1948 في مدينة أكادير لأسرة أمازيغية يهودية مغربية تعود أصولها إلى مدينة آسفي. شبّ في بيئة مختلطة لا تعرف الحواجز بين الطوائف، قبل أن تهزّ طفولته مأساة زلزال أكادير سنة 1960، التي فقد فيها عدداً من أقاربه.

انتقل بعدها إلى الدار البيضاء، وهناك بدأ وعيه السياسي يتشكّل بين المدرسة الفرنسية والكشفية اليهودية التي كان النشاط الصهيوني فيها قويًا. لكنه، كما روى في بودكاست ضفاف فنجان، “حصّن نفسه بالمساواة والعدالة” ورفض فكرة أن يكون “الوطن أرض ميعاد” خارج بلده المغرب.

حصل أسيدون على شهادة البكالوريا مدرسة ليوطي بالدار البيضاء عام 1965، وهاجر لإتمام دراسته العليا عام 1966 حيث درس الرياضيات في جامعة باريس.

وفي فرنسا، عاش أسيدون أجواء حرب فيتنام وثورة الطلبة عام 1968، وهناك اكتشف أن فلسطين هي بوصلة وعيه السياسي، حيث قال: “الجيل الذي أنتمي إليه هو جيل فلسطين”.

النضال والاعتقال

عاد أسيدون إلى المغرب نهاية عام 1968 قبل إتمام دراسته العليا، وقرر مواصلة دراسته بكلية العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط، وموازاة مع ذلك كان يعمل أستاذا للرياضيات لضمان مصاريف عائلته.

يعد الراحل من أبرز مناضلي اليسار الماركسي المغربي، الذي تعد القضية الفلسطينية جزءا لا يتجزأ من نضاله. ومن مؤسسي اليسار الجديد بالمغرب، إذ شارك في تأسيس منظمة “23 مارس” عام 1970، والتي كانت تهدف إلى نشر الفكر الثوري وتؤمن بضرورة أن يكون الحكم بيد الشعب.

اعتُقل سنة 1972، وعُذّب في المعتقل السري دار المقري, حُكم عليه بـ16 سنة سجنًا، قضى منها أكثر من 12 عامًا في السجن المركزي بالقنيطرة، قبل أن يُفرج عنه بعفو ملكي سنة 1984. ومع ذلك، ظلّ يقول: “لا شيء يمكن أن يعوّضني عمّا حدث، لكنني لا أحمل حقدًا على أحد. كنت في صراع مع نظام، لا مع أشخاص”.

بعد خروجه من السجن، لم يعد أسيدون إلى التنظيمات الحزبية، بل إلى ما سمّاه “العمل الاستراتيجي الطويل المدى”: محاربة الفساد، ونشر ثقافة حقوق الإنسان، والدفاع عن فلسطين.

في منتصف التسعينيات، انخرط في مكافحة الرشوة والفساد عبر الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة “ترانسبرانسي المغرب”، التي كان من مؤسسيها وأول كاتب عام لها، وهي مؤسسة غير حكومية تتبنى مبادئ منظمة “الشفافية الدولية” التي تأسست عام 1996.

وكان يرى أن “الفساد جزء بنيوي في بنية السلطة بالمغرب”. وبأسلوبه الهادئ العميق، ظلّ يذكّر بأن “العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن الأخلاق العامة”.

صوت المقاطعة

معركة حياته الكبرى كانت ضد المشروع الصهيوني. شارك سيون أسيدون في تأسيس حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها “بي دي إس” (BDS) وأشرف على أنشطتها في المغرب، كان يصفها بأنها “حركة ضمائر حية تسعى لإنهاء المشروع الصهيوني عبر ثلاثة مطالب: إنهاء الاحتلال، ونظام الفصل العنصري، وضمان حق العودة”.

أرسل أسيدون من داخل سجنه في القنيطرة، عام 1982، رسالة إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أكد فيها استعداده للانضمام إلى المقاومة الفلسطينية عبر مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بالرباط.

وفي مقابلته عبر برنامج “ضفاف فنجان”، لم يُخفِ أسدون قلقه من “تسونامي التطبيع” الذي يفتح أبواب المغرب أمام إسرائيل في المجالات العسكرية والاقتصادية، واعتبره “شكلًا جديدًا من الاستعمار”. ومع ذلك، كان متفائلًا بمستقبل الوعي الشعبي، خاصة بين الشباب الذين “استلموا المشعل بقوة”.

لم يتخلف سيون أسيدون طيلة معركة “طوفان الأقصى” عن الفعاليات المناصرة للفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023، إذ يُعرف أسيدون بحضوره الدائم والفاعل في المسيرات والمظاهرات الشعبية المندّدة بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الاعتصام الشعبي أمام القنصلية الأمريكية بالدار البيضاء يوم السبت 2 غشت الجاري، والمسيرة المتّجهة نحو ميناء طنجة يوم الأحد 3 غشت، احتجاجًا على رسو سفن تحمل معدات عسكرية موجهة إلى إسرائيل.

غياب غامض

لكنه لم يتمكّن سيون أسيدون من مواصلة نضاله من أجل غزة خلال الشهرين الأخيرين قبل إعلان وقف الحرب. ففي يوم الاثنين 11 غشت 2025، عُثر عليه مغمًى عليه فوق كرسي داخل منزله بالمحمدية، الذي جرى اقتحامه بحضور الشرطة بعد أن انقطع الاتصال به لمدة يومين.

كان أسيدون فاقدًا للوعي، وعلى جسده آثار إصابات على مستوى الرأس والكتف، ما استدعى نقله على وجه السرعة إلى إحدى المصحات بالمحمدية. وبعد الفحوص الطبية، تبيّن أنه يعاني نزيفًا حادًا في الدماغ والرئتين، ليُنقل لاحقًا إلى الدار البيضاء لمواصلة العلاج في قسم العناية المركّزة.

وفي بلاغٍ رسمي أصدره الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء يوم الثلاثاء 19 غشت، أوضحت النيابة العامة أن “التحقيقات الأولية التي باشرتها الشرطة القضائية ما تزال جارية، وسيُرتّب على نتائجها ما يلزم من آثار قانونية فور اكتمالها”.

ورغم غيابه الجسدي، ظلّ “المعطي” – وهو الاسم الذي أحبّ أن يناديه به أصدقاؤه – حاضرًا بينهم في وجدانهم وفي جميع الفعاليات المناصرة لفلسطين، داخل المغرب وخارجه.

فقد رُفعت صوره في المسيرات الشعبية المؤيّدة لغزة، وردّد المتظاهرون اسمه في الهتافات تضامنًا معه. كما حمل نشطاء مغاربة صوره على متن “أسطول الصمود العالمي” المتوجّه لكسر الحصار عن غزة، اعترافًا بدوره ورمزيته في النضال ضد التطبيع.

الرحيل

وفي صباح يوم الجمعة 7 نونبر 2025، أسلم سيون أسيدون الروح عن عمر ناهز 77 عامًا، بعد قرابة ثلاثة أشهر قضاها في العناية المركّزة بإحدى مصحات الدار البيضاء.

وأعلن أصدقاء ومقرّبون وفاته في بلاغٍ أكدوا فيه أن حالته الصحية “تدهورت هذا الأسبوع”، رغم ما بدت عليه من مؤشرات تحسّن خلال الأسابيع الماضية.

وطالب عدد من النشطاء والمحامين النيابة العامة بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء بضرورة توضيح ملابسات الوضع المأساوي الذي أدى في نهاية المطاف إلى وفاة سيون أسيدون، رمزٍ وطنيّ وإنسانيّ ظلّ حتى آخر أيامه وفيًا لقضايا العدالة والحرية.