story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

فوز “مَمداني”.. المرآة القاسية لواقعنا السياسي

ص ص

تابع العالم خلال الأشهر الماضية السباق نحو عمادة مدينة نيويورك، أكبر مدن الولايات المتحدة وأكثرها تأثيرًا، بميزانية تفوق 110 مليارات دولار. وقد استقطب هذا الاستحقاق اهتمامًا استثنائيًا بعد بروز مرشّح شاب غير تقليدي، يحمل أفكارًا تُعارض التيار السائد في السياسة الأميركية، وينحدر من خلفية نادرًا ما تجد تمثيلًا في مواقع المسؤولية: أسرة مهاجرة ومسلمة.

وتصاعدت المتابعة مع حدّة الهجمات التي تعرّض لها المرشّح، حتى إنّ الرئيس الأميركي نفسه وجّه إليه انتقادًا صريحًا، وهدّد بوقف التمويل الفيدرالي لمدينة نيويورك في حال فوزه. فكان السؤال الذي شغل الرأي العام: هل يفعلها ممداني؟ وهل تتّسع الديمقراطية الأميركية لمرشّح مثله؟

تقوم استراتيجية زهران ممداني على خطاب يساري ذي نَفَس اجتماعي، بلغة بسيطة قريبة من المواطنين، يركّز على قضايا ملموسة تمسّ حياتهم اليومية: الإيجارات المتصاعدة، الرعاية الصحية، عدالة جهاز الشرطة، وحقوق الأقليات. برنامجٌ قائمٌ على تعهّدات واضحة، لا شعارات فضفاضة.

كما تميّز ممداني بموقف واضح من القضية الفلسطينية، إذ انتقد الدعم الأميركي اللامشروط لإسرائيل، واتخذ موقفا علنيا نادرا في السياسة الأميركية التقليدية، مؤكدًا أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية في غزة، وأنه لو انتخب عمدة لوجه شرطة المدينة باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لو وطئت قدماه نيويورك، تطبيقا لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية. هذا الموقف عزّز حضوره لدى فئات واسعة تطالب بسياسة خارجية أكثر اتساقا مع مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

فاز ممداني، في استحقاق يُعدّ نقطة تُسجَّل لصالح الديمقراطية الأميركية، لما أبدته -في هذه المحطة- من قدرة على استيعاب المختلف وإتاحة منافسة حقيقية. وتحسّر أنت، يا أيّها المتابع الذي يسكن أزقّة الضروب المنسيّة، في مدنٍ تُدار فيها الانتخابات بـ”الزرقلاف”، وبصناديق تشبه صناديق السحرة، ما إن تُفتح حتى تخرج منها “الحمامة” بطريقة لا يعرف سرَّها أحد. تحسّر، يا مسكين، على بؤس “ديمقراطيتنا” التي لو تجرّأ فيها سياسيّ على قول عُشر ما قاله ممداني، لوجد نفسه داخل زنزانة، لا عمدةً على أكبر مدن العالم. وكيف لا، وقد صار مجرّد التشكيك في نزاهة الاقتراع جريمة قد تُفضي إلى خمس سنوات سجنًا؟

إنّ فوز ممداني يحدث رجّةً في أعماق كلّ حرّ يعيش تحت سطوة الأنظمة السلطوية، رجّةً تُوقظ في داخله شعورا مريرا بالغربة. فمن جهة، ينفتح أمامه أفق رحب من الحرية والرقي السياسي، فتتوق إليه نفسه تلقائيا، ومن جهة أخرى، يشدّه واقعٌ غارق في وحل التخلّف السياسي وأساليبه المتهالكة، فإذا به غريبًا في وطنه. غير أنّ سؤالًا مُعاندًا يهمس داخله: أما آن لغربتنا أن تنتهي؟

إنّ مشكلتنا ليست في غياب “ممداني” بيننا، فحتى لو جئنا به هو نفسه، لما بلغ عتبة السباق أصلا، إذ ستُغلق في وجهه الأبواب قبل أن يخطو خطوته الأولى نحو الترشّح. سيُصنَّف خارج “المقبول به رسميا”. فأفق ممداني لم يكن ليقبل، بأي حال، شرط السياسة عندنا، وهو ما عبر عنه رئيس حكومة سابق يوما بقوله: “نحن في الحكومة، ولكن لا نحكم… بل نساعد من يحكم.”

أو ربما – كما قد يقول ساخر- قد تُغريه منحتُنا “السخيّة” البالغة 35 مليون سنتيم، فيُخفّف من مطالبه، ويقبل الشرط، ويترشّح مستقلًا، حيث إنه ما يزال في الرابعة والثلاثين من عمره!

إنّ مشكلتنا ليست في ضعف نخبة شبابنا، بل في خُلُوّنا من المنظومة التي سمحت لأمثال ممداني بالتطوّر والتألّق والفوز. فما يزال أساس بنائنا السياسي هشًّا، لا يقوى على حمل أمثال ممداني، يلفظهم قبل أن يشتدّ عودهم، ويضع أمامهم من العراقيل ما يدفع الكثير منهم إمّا إلى الهجرة حيث يُسمح لصوتهم أن ينمو، أو إلى صمت قاس يطفئ فيهم شرارة الحلم.

ولذلك، فإنّ أولى الأولويات أن يوجّه “مَمدانيّونا” تركيزهم نحو الهدف الأهم: تأسيس منظومة سياسية سليمة، منظومة تخدم المواطن حقا، ولا تُقصي المخالف سياسيًا مهما كان رأيه، ولا تجعل من حرية التعبير جريمة، وتُفرز فعلا من يريده الناس، لا من تختاره قلّة متحكّمة وتفرضه على الجميع.

ليس ذلك أمرا مستحيلا، ولا ينبغي للشباب أن يستسلموا لليأس. نعم، المهمة شاقة وتتطلّب عزمًا وإرادة صلبة، غير أنّ الرياح اليوم تهبّ في صالحهم، فليبسطوا أشرعتهم… أشرعة الحرية والعزّة والكرامة.

من الرماد يمكن أن ننهض جميعا، وبهم ننهض. نمضي واثقين – بإذن الله – لأنّ شبابنا هم نارنا المضيئة.