story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

في الحاجة إلى وعي احتجاجي مسؤول..”جيل Z” بين الرغبة في التغيير وغياب البوصلة

ص ص

إنها اللحظة الثورية التي طالما انتظرناها يقول يساري متجذر لا يرى في المشهد إلا مؤشرات نظام فاسد سلطوي متسلط.. لقد حان موعد القومة كما تنبأ عبد السلام ياسين يقول إسلامي لا يرى هو الاخر في الواقع السياسي المغربي الا فسادا واستبدادا. لقد كانت لحظة حاسمة وضيعناها سيقول متفائل ساذج ظل يردد سرديته القديمة “النظام في أزمة”. نعم نعم هناك اختلالات في عدد مهم من مجالات الحياة العامة في المغرب ، لكن توصيفات النظام السلطوي والمتسلط والفاسد بكل صدق لم تعد مناسبة.

لست من هواة التشفي لكني أرى أن ما شهده المغرب، في الآونة الأخيرة، أقصد موجة التعبيرات الشبابية التي انطلقت ظاهريا من جيل جديد يعرف بـ”جيل Zوأساسا من خلف غرف مغلقة وشاشات ذكية. جيل نشأ في فضاء مفتوح، حيث العالم الرقمي هو امتداده الطبيعي، وحيث القدرة على التعبير غير محدودة.

لا شك أن لهذا الجيل طاقة حقيقية، ورغبة في التغيير كغيره من الأجيال التي سبقته، ورفضا لما يعتبره اختلالات بنيوية في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي تجاوزت في كثير منها سقفها الجيلي أقصد بذلك أنها تجاوزت مطالب فئتها الى ما عداها من مطالب تهم شرائع أوسع من المغاربة. هم شباب نعم لكن الشباب مقولة وليس واقعا كما يقول أهل علم الاجتماع .

وكما ذهب الكثير ممن واكبوا هذا الحراك الشبابي الطبيعي جدا، من أن المطالب لم تكن مطالب جيل بعينه، إذ لو تعلق الامر بمطالب الحريات الفردية مثلا أو تخفيض رسوم التسجيل في بعض المؤسسات أو تسهيل الولوج الى التكنولوجيات الحديثة أو ما يتعلق بمدد التكوين في بعض المجالات أو تيسر الولوج الى التكوين في مجالات مهن المستقبل وغيرها من المطالب المرتبطة بهذه الفئة العمرية لكان الامر مقبولا و لكن الذي حدث هو أن طبيعة المطالب لم تكن مطالب “جيلية” هذا لا يعني أن ليس من حق هذا الجيل المطالبة بما طالب به لكن التطورات اللاحقة تدفع الى التساؤل بشكل موضوعي. فالأمر لم يتعلق بمطالب “اجتماعية” لجيل معين.

إن جيل زد يعيش اليوم أزمة هوية عميقة، تتجاوز حدود الأفراد، لتتحول إلى مسألة أزمة انتماء جماعي إلى هويات متعددة مشتتة لا جامع بينها إلا منبعها الذي هو الشاشات الذكية بما هي ممر إلى العالم المفتوح اللانهائي، إنها أزمة حقيقية لها أسبابها السياسية بامتياز. لا يتعلق الامر هنا بتاتا بدعوة الى الانغلاق، بل هي دعوة الى مزيد من الحذر وعدم الاستسلام للتحليلات المطمئنة والمطمئنة.

فهذه الأزمة ليست في التعليم أو الصحة والشغل باعتبارهما مجالات التوتر الدائم والهشاشات المزمنة، بل في انتماء الجيل الجديد إلى منظومة رمزية ومؤسساتية لم تعد تعبّر عنه. يعيش بين فضاء رقمي مفتوح يَعِده بالحرية والمساواة وحياة الرفاه، وواقع سياسي واجتماعي مغلق يفرض عليه وصايته ويُقصيه من دوائر القرار والتأثير وإمكانيات الولوج الى فضاءات تصنع الحياة الرغيدة.

إنه جيل تشكّل وعيه في زمن الشاشات، يدرك إمكانات التكنولوجيا لكنه لا يرى انعكاسها في المؤسسات القائمة، فيشعر بالاغتراب داخل الدولة والمجتمع معًا. ضعف ثقافة القانون لديه، تتحمل الدولة كامل مسؤوليتها في هذه الهوة وهذا الفراغ بسبب تدبدبها المزمن في اصلاح منظومة التربية والتكوين. وإصلاح مجال الصحة الإدارة والقضاء. وفي التساهل الواضح مع فئات معينة في كثير من الأحيان بعدم تطبيق القانون. وصرامتها الزائدة في أحيان أخرى مع فئات أخرى.

تجاهلُ الأجيال السابقة له، وضعف قنوات الوساطة القادرة على تمثيله، تتحمل الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني مسؤوليتها كاملة باعتبارها قنوات لادماج الشباب في الحياة العامة دفعاه إلى البحث عن الاعتراف عبر الفعل الاحتجاجي المباشر. فالاحتجاج بالنسبة إليه لم يعد مجرد وسيلة ضغط، بل أداة لإعادة تعريف الذات وفرض الحضور داخل المجال العمومي. ومن هنا اعتبر بعض الشباب شعار “القمع أهون من التجاهل” شعارا مناسبا، فالتعرض للقمع حسب بعضهم أصبح شهادة اعتراف أما التجاهل فيعني إقصاء.

إن الإنصات إلى هذا الجيل لم يعد ترفًا، بل ضرورة سياسية لضمان استمرارية التعاقد الاجتماعي المغربي . فاستبعاده من الفضاء العام لن يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين الدولة ومواطنيها الشباب، بينما إدماجه يفتح أفقًا جديدًا لتجديد الشرعية وبناء ثقة مفقودة بين السلطة والمجتمع. لكن، وعلى الرغم من الزخم الذي بدأ يُرافق تحركات هذا الجيل، إلا أن علامات الارتباك وعدم النضج السياسي والتنظيمي تلوح في الأفق بقوة.

إن أحد أكبر التحديات التي تواجه هذا الحراك الشبابي اليوم هو غياب الأهداف المحددة، وتشتت الشعارات، وافتقاد المطالب لإطار مرجعي قابل للقياس أو التحقق. والحركات التي تفتقد هذا الوضوح كثيرًا ما تتحول إلى حالات انفعالية، لا تراكم تجربة، ولا تُنتج أثرا مهما بدا من ردود أفعال بعض المسؤولين. فمقاولو الاحتجاجات كما يسميهم أحد الباحثين يلتقطون كل إشارات التوتر التي يمكن أن يشهدها قطاع ما لتحويلها من توتر قطاعي إلى احتجاج اجتماعي خاصة مع الإمكانيات التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي لتسهيل التعبئة وتيسير الانتشار.

في هذا السياق، ما يُثير القلق أكثر، هو تدخل بعض الأصوات المحسوبة على دعاة التغيير الجذري، والذين يروّجون لخطاب عدمي، يختزل الحل في القطيعة الكاملة، ويحاولون توجيه الشباب، الذين ما زالوا في طور التشكل الفكري والسياسي، نحو مواقف قصوى لا تستند إلى مشروع واقعي ولا إلى قراءة دقيقة للواقع المغربي. هؤلاء لا يُقدمون بدائل، بل يوظفون زخم الجيل الجديد لتصفية حساباتهم الأيديولوجية مع الدولة والمجتمع، متجاهلين أن الأوطان تُبنى عبر التراكم، لا بالهدم الفوضوي.

إن الفرق بين التعبير الفردي والقيادة الجماهيرية شاسع. أن تُعبّر عن رأيك، ولو كان راديكاليا، فهذا من صميم الحريات الفردية. لكن أن تحشد الناس وتُوجّههم نحو أهداف غير واضحة، أو مسارات غير محسوبة، فتلك مسؤولية لا يمكن الاستهانة بها. من السهل أن ترفع شعارات مثيرة، لكن الأصعب هو أن تبني وعيًا جماعيًا يحول الغضب إلى مشروع، والاحتجاج إلى قوة اقتراح وتغيير.

في نفس السياق، ظهرت مؤخراً دعوات في تقديري يمكن وصفها بالعشوائية وغير المدروسة كمقاطعة الملاعب الرياضية باعتبارها رمزا للانفصام بين “الواقع الصعب” و”الفرجة المزيفة” وهذا طرح لا يعكس فقط سوء تقدير للسياق المغربي، بل يُفرغ سوسيولوجيا الجمهور من تعقيداتها، ويحاول فرض مقاربات أخلاقوية على فضاءات لا تُعتبر فقط المتنفسات الرمزية للعام والخاص. بل تتجاوز مهمتها الرمزية الى وظائف اقتصادية وسياسية …

لقد ذهب البعض إلى اعتبار غياب نفس عدد الجمهور الذي حضر افتتاح المركب الرياضي مولاي عبد الله عن لقاء ودي للمنتخب الوطني بمثابة استجابة لدعوات المقاطعة تصريح في تقديري أكثر من متهافت خاصة وأن لقاء آخر حضره أكثر من خمسين ألف متفرج.

كما أن التنقل العشوائي في الخطاب من التنديد بسوء الخدمات، إلى المطالبة بمقاطعة الرياضة، ثم القفز نحو المطالبة بتدخل الملك وانتظار خطاب ملكي يستجيب لمطالب بإقالة ومحاكمة وزراء ومسؤولين في تغييب لدور مؤسسات قائمة بتاريخ طويل من الممارسة المؤسساتية والدستورية من قبيل حل البرلمان واسقاط الحكومة يُضعف أي مصداقية للحراك، ويفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول خلفيات من يقفون خلف هذه التوجهات.

ومن جهة أخرى، لا يمكن أن نغفل ما جاء على لسان الملك محمد السادس في عدد من الخطب الأخيرة، والتي تضمنت رسائل واضحة في اتجاه التجاوب مع الانتظارات الاجتماعية، والدعوة الصريحة إلى تسريع وتيرة التنمية، ومعالجة أعطاب السياسات العمومية، دون السقوط في الثنائيات الزائفة التي تُقارن بين “نجاح المشاريع الكبرى” و”الاختلالات الاجتماعية” وكأن التقدم الاقتصادي يتناقض مع العدالة الاجتماعية.

إن التغيير لا يكون بشيطنة المؤسسات، ولا بتبخيس جهود الدولة، بل بممارسة نقد مسؤول يراكم ولا يهدم، يُقوّم ولا يُفجّر. الحراك الحقيقي لا يُبنى على غضب اللحظة، بل على تراكم الرؤية، ونضج الفكرة، ووضوح الهدف.فكل حركة لا تملك وعيًا سياسيًا يُمكّنها من إدارة الصراع ضمن منطق الدولة لا خارجها، مآلها أن ترتطم بالجدار. إن من يريد أن يضع بصمته على الحياة المغربية، عليه أولًا أن يُدرك طبيعة المجتمع، وحدود المرحلة، وواقعية الممكن، وأن يُحسن قراءة اللحظة، قبل أن يشرع في نقدها مهما كان أفقه بناؤها أو هدمها.

*عبدالاله ابعيصيص