دولة المليارديرات

يتابع العالم منذ مساء أمس، معركة حامية بين أغنى رجل في العالم وأقوى سياسي فيه، لا تشبه إلا صراع ديكين في حلبة مغلقة، حيث الغلبة ليست لمن يمثل الشعب، بل لمن يصرخ أعلى ويملك تهديدات أكبر.
هذا هو المعنى الحقيقي لتحلل السياسة: أن تنتهي الدولة إلى ساحة ملاكمة بين أصحاب المليارات، بينما يتفرج الشعب من الصفوف الخلفية، مثل جمهور حلبة مصارعة يعرف أن كل ما يراه ليس إلا عرضا بلا قواعد، ولا نتائج عادلة.
يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد فقط القوة العظمى التي تتحكم في ميزان العالم، بل تحوّلت في بعض تجلياتها المعاصرة إلى خشبة مسرح عبثي، يتصارع فوقها ملياردير نزق يبحث عن مجد أبدي، مع ملياردير آخر يحمل هوس السيطرة على الكواكب..
في الأثناء، تتشقق مفاصل الدولة وتتساقط أسهم الاقتصاد، ويجد المواطن الأمريكي العادي نفسه رهينة معركة لا علاقة لها لا بالديمقراطية ولا بالمصلحة العامة، بل بكل ما هو نرجسي، ومالي، وذاتي.
ما يجري اليوم بين دونالد ترامب وإيلون ماسك ليس مجرد خلاف سياسي، ولا حتى صدام مصالح بين فاعلين اقتصاديين كبار، بل هو التجسيد الكامل لتحوّل السياسة إلى امتداد فاضح للثروة، وتحول الدولة نفسها إلى أداة طيعة في يد أصحاب الملايين.
لم يأتِ كل من ترامب وماسك إلى الحقل السياسي حاملَين لأطروحات فكرية أو مشاريع مجتمعية، بل حملتهما أمواج الثروة المتضخّمة، وصعود البورصات، وولع الجماهير بكرنفالية الأداء، وتلك وصفة خطيرة، تُفرّغ الدولة من معناها، وتُحوّلها إلى سكين في يد طفل.
لقد انقلبت الصداقة الوثيقة بين الرجلين إلى حرب مفتوحة، سرعان ما نُقلت مباشرة إلى حساباتهما الشخصية على “تروث سوشال” الذي يملكه ترامب، و”إكس” الذي يملكه متاسك.
لم نعد إزاء خلاف في تقدير السياسات العامة، بل أمام سيل من التهديدات المتبادلة: ترامب يهدد بوقف عقود الدولة مع شركات ماسك، معلنا أن “أسهل وسيلة لتوفير المليارات هي إنهاء عقود إيلون”، بينما يرد ماسك بالدعوة إلى عزله، ويلوّح بإلغاء برنامج “دراغون” الذي تعتمد عليه وكالة “ناسا”، بل ويقذف قنبلة من العيار الثقيل باتهامه ترامب بإخفاء اسمه من ملفات جيفري إبستين، المثقلة بتهم الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي.
حين يفقد رأس الدولة صفة التعالي على المصالح الخاصة، ويتحول إلى لاعب ضمن شبكة معقدة من الحسابات الفردية والصفقات المضمرة، فإن ما يحدث هو تآكل في معنى الدولة نفسها.
من يفترض فيه أن يكون حَكمًا، صار خصما. ومن يُفترض فيه أن يمارس المعارضة من موقع المسؤولية الأخلاقية، يمارس الانتقام من موقع الثروة. وبين الطرفين، يقف الكونغرس مشلولا، والديمقراطيون يصفقون للصراع من بعيد، باعتباره “لعبة محصلتها صفر”، حيث كل ضربة يتلقاها ترامب تُضعف الجمهوريين، وكل فضيحة تطال ماسك تُربك المعسكر المحافظ.
المثير أن هذا الانفجار لم يكن مفاجئا. فمنذ أن دخل ماسك إلى البيت الأبيض بصفته “المفوّض السامي لكفاءة الحكومة”، وأغلق الوكالات وسرّح الموظفين باسم “تقليص الميزانية”، كان من الواضح أن الدولة تحوّلت إلى مقاولة صغيرة تُدار على طريقة “تيسلا”: أقصى ما يمكن من الطرد، وأدنى ما يمكن من المحاسبة.
ومنذ أن فتح ترامب أبواب البيت الأبيض لماسك، وأهداه “مفتاحا ذهبيا”، كانت القواعد المؤسسة للجمهورية الأميركية تهتزّ، لصالح علاقة شخصية لا يحكمها غير منطق الولاء والمصلحة الآنية.
لم تعد المسألة مجرّد مساجلات سياسية، بل هي مؤشرات خطيرة على ما يحدث حين يصبح المال معيار الشرعية، ويصبح الملياردير “صانع سياسات” فقط لأنه قادر على تمويل الحملات الانتخابية، أو حجب الأقمار الصناعية، أو حبس رواد الفضاء داخل محطتهم الدولية.
هل نحن أمام رئيس دولة، أم زبون غاضب يهدد بإلغاء الاشتراك في شركة خدمات؟ هل نحن أمام رجل أعمال حر، أم زعيم مافيا رقمية يلوّح بملفات جنسية وأسرار الدولة؟
اللافت في هذه المواجهة أن الطرفين لا ينكران ما يفعلانه. ترامب يتباهى بأنه يستطيع إنقاذ الميزانية بقطع التمويل عن ماسك، وكأنه يعاقبه شخصيا، ولا يعيد تقييم أولويات الحكومة. وماسك يتباهى بأنه يملك من المال والنفوذ ما يمكنه من إسقاط أي قانون، بل وتغيير نتائج الانتخابات.
كلاهما يمارس السياسة كأنها امتداد لشركاتهما الشخصية. وكلاهما يُعيد تشكيل الدولة على صورته: ترامب الدولة السوقية القومية الشعبوية. وماسك الدولة الرقمية الفضائية المتعالية على الأرض والناس والقوانين.
المشكلة أن من يدفع الثمن هو المواطن. ومن يفقد التأمين الصحي بسبب مشاريع ترامب، أو يُهدد بإلغاء برامجه الاجتماعية، ليس هو ماسك. ومن سيتضرر من انهيار “دراغون” أو من إلغاء عقود “سبيس إكس” ليس هو ترامب، بل عشرات الآلاف من العمال، وملايين المواطنين الذين رُهن مستقبلهم لتقلبات مزاج مليارديرين.
ما يجري في واشنطن اليوم ليس فقط معركة بين شخصين، بل نموذج لما سيحدث حين تصبح الدولة أداة في يد أباطرة المال. حين تصبح الثروة جواز عبور إلى الحكم، وحين لا يعود هناك فارق بين من يدير شركة ومن يدير دولة.
هذا هو المعنى الحقيقي لتحلل السياسة: أن تنتهي الدولة إلى ساحة ملاكمة بين أصحاب المليارات، بينما يتفرج الشعب من الصفوف الخلفية، مثل جمهور حلبة مصارعة يعرف أن كل ما يراه ليس إلا عرضا بلا قواعد، ولا نتائج عادلة.
في النهاية، لا ماسك هو “القديس المستقبلي”، ولا ترامب هو “المنقذ القومي”. إنهم فقط وجهان لنفس الخطر: حين تفقد الدولة مناعتها، ويختلط العام بالخاص، وتُدار المؤسسات الكبرى كما تُدار الحسابات الشخصية على “إكس” و”تروث سوشال”؛ عندها فقط يصبح مستقبل الشعوب مرهونا بتغريدة، أو بمنشور انتقامي، أو بصفقة لم تُعلن بعد