story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

حكم شجاع

ص ص

هناك أحداث ووقائع لا تكتسب معناها ولا يصبح لها مضمون، إلا من السياق الذي تصادفه أو يصادفها، وهو ما يبرّر إصرار الكثير من المراجع والأدبيات المتعلقة بأساسيات الصحافة، على أهمية استحضار السياق ووضع الأخبار والوقائع في سياقها كي يكتمل معناها.

اليوم نحن أمام حكم قضائي صادر عن المحكمة الابتدائية الإدارية بالرباط، ينتصر لمواطنة تضررت من لقاح كورونا في مواجهة الدولة، لم يكن ليشكّل الحدث لولا تزامنه مع اعتراف شركة “أسترازينيكا” البريطانية-السويدية، بمسؤولية لقاحها المضاد لفيروس كورونا، عن أمراض ووفيات أصابت من طعّموا به.

أستسمح السادة الخبراء القانونيين الضليعين في شؤون المحاكم والنصوص القانونية والمساطر، ممن لا يجدون في هذا الحكم الذي أدان الدولة المغربية في مواجهة مواطنة اشتكت تبعات هذا اللقاح وما سبّبه لها من شلل وعجز أي داع للاندهاش.

قد يكون الحكم “عاديا” في نظر البعض حين ينطلقون من مبادئ ونصوص القانون، لكننا نستسمحهم في أن ننبهر بهذا الحكم انطلاقا مما نعيشه في الواقع، لا في النصوص.

فأن تضع هيئة مكونة من مجموعة من القضاة المغاربة توقيعاتها على حكم يدين الدولة في شخص كل من رئيس الحكومة ووزير الصحة، وتقضي بمنح المواطنة المشتكية تعويضا، بصرف النظر عن قيمة هذا التعويض، في وقت تمسح فيه الدولة “السما بليقها” ناكرة أن يكون اللقاح المضاد لكورونا مسؤولا عن أية أضرار صحية، فهذا من موجبات الانبهار والإعجاب والوقوف احتراما، بل وأداء التحية.

أستسمح غير المنبهرين في هذا التعليق العاطفي إلى حد ما، لأننا رأينا وتابعنا ملفات فيها مجرد مؤشرات أو تعبيرات ضمنية عما تريده السلطة، فسقطت كل الدفوعات والدلائل والحجج التي تثبت البطلان أو ترتّب البراءة، وصدرت الأحكام القاسية وفقا لما يُعتقد أنه يوافق هوى الدولة وسلطتها.

صحيح أن القضاء الإداري المغربي معروف ومشهود له بالكفاءة والشجاعة حتى، لكن هذا الحكم خاص واستثنائي، لأنه بمثابة حجر الزاوية في بناء ضخم، وإن كان هشا ومفتقدا للأساسات، مبتدأه مرسوم بقانون لإعلان حالة الطوارئ الصحية، ومنتهاه اعتقالات وغرامات ومطاردات ومنع من حقوق وخدمات أساسية، عشناها كمواطنين يفترض أن لبيتهم سقف من حديد اسمه دستور 2011.

هناك سردية سلطوية، قد تكون ناعمة لكنها تظل سلطوية، نسجت حول التدبير الرسمي لجائحة كورونا، كدنا معها نعود إلى الأحكام العرفية ونفقد أبسط حقوقنا وحرياتنا، حتى أن نائبة برلمانية، هي السيدة نبيلة منيب، مُنعت من دخول البرلمان ومباشرة مهامها التمثيلية، وتحوّل توقيع “مقدّم الحكومة” إلى تأشيرة للسفر والتنقل، وبات جواز التلقيح، الذي هو مربط الفرس في هذه القصة، شرطا مسبقا قبل حصول المغربي على أي من حقوقه الأساسية، حتى أن منا من مُنع من دخول بنايات إدارات عمومية لتحصيل خدمة أو وثيقة، فقط لأنه رفض الخضوع للتلقيح.

هذا الحكم القضائي استثنائي وتاريخي لأنه وإن كان يستند إلى بديهيات في القانون، فإنه أيقظنا جميعا، من وهم كاد يسيطر علينا، مفاده أن الدولة تصرّفت في إطار الدستور والقانون، وألا مجال لمناقشتها أو مساءلتها أو مؤاخذتها، ولا مجال لمحاسبتها وإن أخطأت لأن الأمر يتعلّق بكارثة وفترة طوارئ.

في تفاصيل وحيثيات هذا الحكم، نلمس أهمية وحيوية وجود قضاء كفء ومستقل، حين نطالع تلك الدفوعات التي قدّمتها وزارة الصحة ومن خلفها الحكومة، وإنكارها التام لأية علاقة بين اللقاح وما تعرضت له الأستاذة نجاة تواتي من شلل جزئي وعجز دائم.

وأهمية الحكم قد لا تكون في منطوقه، بقدر ما هي في تلك التفاصيل الصغيرة لمسار الخبرة الطبية المتعثر الذي قطعه الملف، وتغيير خبير واعتذار آخر.

أهميته أيضا في هذا السلوك المدني والمواطن الراقي الذي أبانت عنه مواطنة لم تنهزم ولم تستسلم وتمسّكت بحقوقها وسلكت المساطر القانونية اللازمة لحمايتها، مستعينة بمكتب محاماة يضم الراحل عبد العزيز النويضي، رحمه الله، وزملاءه المقتدرين.

أهمية الحكم في هذا السمو في القراءة والتركيب والاستنتاج الذي قام به القضاة، حين أخذوا من كلام المشتكية ما ينبغي أن يؤخذ وردوا عليها ما يجب أن يردّ، وتعاملوا مع ممثلي الدولة بالمنطق نفسه، فأخذوا منهم وردوا عليهم، وبحثوا عن أسس حكمهم في اجتهادات محكمة النقض والجمعية العامة للأمم المتحدة، ليخلصوا إلى أن مسؤولية الدولة قائمة، بما أنها اعتمدت اللقاح ورخّصت له، لا بل وجعلته إجباريا وأرغمت قسما كبيرا من المواطنين على التطعيم به.

في هذا الحكم نفحة من عدل واستقامة، يحق لنا أن نرى فيها شعاع أمل في استمرار العدل أساسا للمُلك، أو كما قال أبو الفتح البستي:

عليك بالعدل إن ولّيت مملكة
واحذر من الجور فيها غاية الحذر.
فالمُلك يبقى على عدل الكفور ولا
يبقى مع الجور في بدو ولا حضر.